تحياتي أستاذة إخلاص . ما تكتبينه مثير للاهتمام.
فهذا النص قد نفضُ قلبٍ مثقلٍ بحوارٍ مع المدينة والإنسان؛ فيه صرخة حزنٍ تلتقي برغبة لا تضعف في الخلق والالتحام. أُحبُّ في مقطعك هذه البراعة في المزج بين الشهادة ونبض الأمل: بيروت هنا ليست مكانًا فحسب، بل صورةٌ لكينونةٍ تُصقَل في أتون الفاجعة، وحيث يتحوّل الرماد إلى فعل إبداعي يُعيد بناء الوجود من شظاياه.
أسلوبك حميميٌّ وصادق؛ تراوح بين الحزن والدهشة، بين التأمل والنداء، فتجعل القارئ يختبر معك مرارة المشهد ثم يبصر من خلفها بريقًا لا ينطفئ. لديك إحساس قويّ بالإيقاع الداخلي: تكرار الصور (البحر، الرماد، القلم، الوجه الممزق) يقيم جسرًا يربط الألم بالكتابة، والكتابة بالنجاة. هذا الارتباط بين المأساة والخيال هو ما يمنح النصّ عمقه الإنساني ويجعله شهادة لا تُمحى.
كما أقدر صدقك سيدة إخلاص في المشاهدة الاجتماعية والسياسية — لم تَغْفِلِي عن سؤال العدالة والذاكرة: من يكتب التاريخ؟ ومن سينصف المُشظَّى؟ هذه الأسئلة لا تُثبّت النص فحسب، بل تحيله إلى موقف أخلاقي يُحاور القارئ ويدفعه إلى المساءلة. وانتِ أخطأتِ حين خفتِ من صبغة الحزن؛ لأن الحزن هنا أداة رؤية، لا مجرد شجنٍ دون غاية.
نقطة جمالية صغيرة: لو عززتِ أحكام الجمل ببعض الاقتصار الموّزن في مواضع الانفعال، لصار الإيقاع أنقى، ولبرزتِ المفارقة بين الرمادي والأزرق أكثر عنفوانًا. لكن هذه ملاحظة تقنية لا تنقص من قيمة ما كتبته، بل تفيد في صقل الصوت الشعري السردي الذي تملكينه.
أختم بأن أقول: كلمتك هذه فعلٌ من أفعال المقاومة—مقاومة النسيان، ومقاومة التحطيم. احتفظي بهذا النبض، واصبري على الكتابة كجرحٍ يُطلِعُ النورَ على نفسه؛ فالأدب حين يولد من حُزنٍ عميق يصبح قادرًا على فتح أبواب يقفز منها اليقين. شكراً لمشاركتك هذه الشهادة الجميلة — ربما هي بداية نصّ أطول أو مجموعة شهادات تنبض بحياة بيروت وبناء الإنسان فيها.
*****
النص:
كلمات كتبتها بعد آخر زيارة لبيروت وأردد وأقول الآن الإنسان فيك يا وطني يجترح المعجزات من رماد الكلمات يعجنها بدمعه ينتفض ليحيا،
بيروت وكأن قدر الانسان فيها أن يجترح المعجزات من جدار الغيم، ففي كل صباح يفتش عن تقنية جديدة ليلملم صور تمنحه القدرة على الحياة،يضع تصور جديد ليهزم فيه النكبات والانكسارات، يقاوم شتى أنواع الالم، فيبدع وماذا غير الابداع والقلم والحرف والكلمة يستطيع أن يستخدمها كقارب يخرج به من بحر المشاهد الدامية اليومي، فكل شخص التقيته كان في عينيه بحر من كلمات، ومن أوجاع، وأخرى بحيرات من أمل تقشط كثبان الوهن عن جسده، يجمع أوراقه المبعثرة من الداخل، ، يجلس حولها يتأمل في كل ما حوله الحياة والموت ودورة الكون، صور تهتز لها مفاصل المسكونة، وعند النقطة الفاصلة يدفع بسيل الاوجاع هذا نحو موقد الأمل مستجدياً التراب والحصى والموات والأزمات ليصيرها شكل من أشكال الأدب، أدب المأساة او الفاجعة، في بيروت، ناس التقيتهم للمرة الأولى وناسُ لم أعرفهم، وعندما عبرت بمرفأ بيروت رأيتهم ينظرون إليً وسمعت ماء البحر يناديني، وعروس تريد أن أطفأ حريق اعتراها دون أن تدري ما ذنبها، تربك وجداني ماذا أقول وعن أي معرض سأتكلم والانسان المشظى المهشم في كل مكان، وسؤال يتبادر إلى ذهني، ماذا سيكتب التاريخ عنه وهل سينصفه حيث خانه واستغله أقرب الأقربون، وبيع من الصديق والقريب والبعيد، يوما بعد يوم تزداد دهشتي، وانا أرى ابتسامات تمزق القلب فقط ليوهموا أنهم أقوى من الموت، شاخت الكلمات وهرمت الكتب وهي في ريعان الشباب، فالحاضر رمادي، والأرز على قمم الجبال أخضر، يمدني أوكسجين الأمل، علاج كل الامراض المزمنة، حتى بعد تقطيعنا إلى أشلاء، كلما ضاق فضاء الحرية اتسعت فرصة الجريمة، وكلما شح قلم الانسانية والصوت على منبر الانسانية الحر كلما أزدادت فرصة الرحيل عن الوطن للمبدعين، ومتى فرغت الاوطان من مبدعيها اصبح البشر أكثر ضراوة وقسوة، ولقمة سائغة في فم النكبات والكوارث، لا أحب أن انهي كلماتي باللون الرمادي والتراجيديا الذي لا احبه، فأنا أعشق الازرق، ليتني أملك مفتاح باب الفجيعة واليأس أوصده بكل ما أوتيت من شعر وحب ونبدا عامنا الجديد بشغف الحياة
إخلاص فرنسيس