
بقلم: حبيبة المحرزي.
” رقصات الصّمت تحت جنح الظّلام” تصدّعات ذاتيّة أم هموم انسانيّة عامّة؟
السياق العام:
في سياق الأدب المعاصر، الذي يتسم بتوظيف الصمت والظلام كفضاءات تعبيرية، يبرز ديوان “رقصات الصمت تحت جنح الظلام” كوثيقة شعرية تعكس أزمة الإنسان المعاصر. يتجاوز هذا العمل الشعري التعبير عن الذات وهمومها الآنيّة، ليطرح تساؤلات وجودية عميقة تمس جوهر الوجود الإنساني، وتستكشف آفاق الكلمة المسؤولة. إنه صرخة مكتومة في وجه العصر، وبحث عن معنى في متاهات الحياة التي يواجهها الإنسان.
من هذا المنطلق، تأتي هذه القراءة للإجابة عن سؤال مركزي:
هل تمثل نصوص الديوان مجرد تصدعات ذاتية، أم أنها تعكس قلقاً إنسانياً عاماً؟
وكيف تحول الظلام إلى فضاء إبداعي، و”الرقصات” إلى تعبير عن الوجود،
وكيف أصبح “الصمت” لغة تواصل أكثر صدقاً من الكلام.
1-التّقديم:
ديوان ضمّ ثلاثة وخمسين نصّا بين قصيدة نثر ونثر حداثيّة وومضة. نصوص شعريّة تملّصت من الهيكلة العروضيّة لتبحر في تضاريس البؤس الوجوديّ الذّاتيّ الخاصّ والانسانيّ العامّ بشحنة من الحرّيّة الّتي توسّع مساحة التّحرّك والتّعبير عن خوالج النّفس المتأزّمة وارتدادات العقل المرتبك.
قصائد تميّزت بالتّنوّع والنّضج في كنف فنّ البوح عبر الكلمة وقوّة التّحدّي ضمن بوتقة الصّمت المطبق.
يقول ” فرويد”(الضّغوط النّفسيّة تغيّر الشّخص من مرح إلى كتلة من الصّمت)
والصّمت قرار ذاتيّ في علاقة بالآخر حذفا وتغييبا عن قصد وسابقيّة إصرار وترصّد.
هذا الصّمت الّذي يمرّ بمستويات تبدأ بالإطار الحاضن المتمثّل في السّكون يعقبه السّكوت الّذي سيتطوّر إلى الصّمت كبديل عن الصّوت، ليصير متحرّكا متناغما في تفاعل مصيريّ حتميّ مع الإطار الزّمانيّ الحاضن للحركة والحامي لها من الانتشار والافتضاح عند الآخر المغيّب المحذوف منذ البدء. إنّه الظّلام الحاضن للتّفجّر الحركيّ والعازف على أوتار الرّقص المحرّك للسّواكن بين أوداج الصّمت.
ديوان يصيب المتلقّي بالارتباك فيسعى للبحث عن تفسير وتبرير. أيّ صمت يرقص تحت جنح الظّلام. والرّقصات جمع والصّمت مفرد مغلق لا نسبيّة فيه ولا تعديد ولا ترجيح ولا تأويل. فالرّقصات إذن هي الكلمات الخرساء البكماء الّتي تبثّ في الظّلام المسيطر المستبدّ بالحركة الحرّة.
قصائد وقصاصات وومضات كلّ واحدة منها رقصة مستقلّة في انتمائها إلى الصّمت الّذي ينصهر تحت جنح الظّلام. هي أضغاث بضغط وجوديّ عدميّ بيّن إلاّ من حيث الحركة والرّقص كفنّ دالّ على الوجود والحياة وفق معيار التّحدّي إذ لا لغة له ولا صوت. هو فنّ مارسه الانسان منذ الأزل ليثبت وجوده بمعيار يقدّس الحركة كدالّ على الحرّيّة في تحدّ ينسف كلّ الحواجز والموانع المادّيّة والمعنويّة.
2 -الإهداء:
الإهداء ذاته ارتبط بالموت كقوّة قاهرة محبطة لابن مازال يحنّ إلى من علّمته رسم الورد وحمل القلم وعزف اللّحن. إلى الأصل والانتماء، إلى” أمّي” هي الأمّ الّتي علّمته كيف يواجه الصّمت كي يعزف لحن الكلمات في قوقعة ذاتيّة صرفة. قد يكون الاعتراف فيه إقرار باختلاف يخلق الاستثناء لكنّ الوقوف في وجه الصّمت غير بيّن إلاّ من خلال الرّقص وما يحتّمه من حركة وتناغم مع لحن تعزفه الذّات المتأذّية من واقع محبط مرير.
3-العناوين:
منذ البدء نجد الشّاعر قد أرفق صورته بقصاصة دون عنوان. هي المنطلق للرّقصات الّتي تجمع شتات ما تبعثر داخل الدّيوان دون ترتيب أو تنضيد أو اعتبار للطّول أو القصر أو التّيمة لأنّها مصنّفة كرقصات عفويّة في كنف العدم بدلالة الصّمت الحادّ المتناغم مع الظّلام المطبق.
أمّا القصاصة الأولى الّتي تلي الإهداء فهي دون عنوان أيضا، رغبة من الشّاعر في الانطلاق من الذّات وفق توليفة زمانيّة مغلقة وكأنّ غياب العنوان منحها ميزة الامتداد والإطلاق.
العناوين تأرجحت بين “نشيد الصّمت” هذا الّذي مرّ من السّلوك إلى القرار و”الملاذ الأخير” “عيناك” هي عناوين تخبّطت بين الموجود والمنشود بين الأمل واليأس بين الماضي والحاضر بين الحبس والحرّيّة بين الحياة والموت بين الصّمت والصّوت.
انزياحات لغويّة تحلّق في سماء الإبداع بطرق فنّيّة رائعة إذ صار للصّمت نشيد يحسّ ولا يسمع وللنّشيد أحلام وللنّجوم رقصة وللقدر لعبة وللدّموع أنشودة وللاشتياق سرير وللرّوح دمعة وللعتاب جدار.
غير أنّ العناوين وإن جاءت في سياقات الإضافة تخصيصا وإبرازا وتعريفا فإنّ الشّاعر لم يتجاوز الإقرار والحسم باعتماد النّعوت والصّفات مثل ” ليل أبيض” و “غمامة غجريّة”
بعض العناوين جسّمت أسلوب التّعجّب ” ما أضيق قلب الوطن” أو الطّلب ” ارحل” أو التّشبيه” كزهر عفيف” وقد يكون العنوان مفردة إيغالا في التّكثيف مثل” جناية” عجب” دمعة” وقد يكون جملة استئنافيّة دالّة على الاستمرار مثل ” ومازال ينبض” ولي فيها مآرب أخرى” تأكيدا على بدايات بعيدة سابقة يدلّ عليها الاستئناف. وقد تكون نعتا حذف منعوته مثل ” بلا عيون” أو مركّبا نعتيّا مثل ” غمامة غجريّة” أو استفهام طلبي لتعيين أحد الأمرين المتقابلين المتضادّين مثل ” أنار أم نور؟” بعمق الجناس بين اللّفظين شكلا ومعنى.
هي عناوين تأرجحت بين الإنشاء والخبر تمهيدا لتيمة القصيدة الموجّهة أساسا للمتلقّي الّذي سيتّخذ من العنوان دليلا يحدّد المحتوى ويرتّبه وفق الأغراض الممكنة.
3-إشارات التّحدّي في الدّيوان:
إذا كان الرّقص دالاّ على الفرح فإنّه بمدلولات وثيقة الصّلة بالتّعبير الحرّ عن خلجات النّفس وفق منظومة انتماء الشّاعر إلى محيطه والّذي يصنّف الرّقص في خانة العادات والتّقاليد المؤطّرة للأفراح والمسرّات، غير أنّ ” جنح الظّلام” أخرج الرّقص من سياقه المألوف لدى الشّاعر والمتلقّي إلى سجلّ آخر مختلف تمام الاختلاف إذ أنّ الظّلام حشر الرّقصات في إطار مدلول مرتبط بالحزن والعدم تلك الّتي ألفناها لدى شعوب افريقيّة بطرق مختلفة تتّخذ من الرّقص وسيلة للتّعبير عن قمّة التّأذّي المصاحب للفقد فيرقصون في الأتراح أيضا وأثناء تشييع الموتى ودفنهم.
والشّاعر ورغبة منه في تحدّي الموجود يتسلّق جدار الصّمت من خلف الحواجز ممعنا في السّوداويّة العدميّة باستحضار الموت وأدغاله. موت بمفهومه القهريّ الّذي تؤثّثه الحواجز والجدار العازل بين الحرّيّة والحياة من جهة والموت المقدّر من جهة أخرى بكلّ طقوسه ومقتضياته من دمع وألم وشموع. يقول قبل البدء في الدّيوان:
من خلف الحواجز
تسلّقت جدار الصّمت
بين أدغال الموت
حين تكسّرت أوتار بدر
ظلّ عالقا كالأمل
ليعيث في الصّمت الّذي فرضه جنح الظّلام كدلالة على زمن خارج التّصنيف الّذي تقتضيه ” رقصات الصّمت” لتكون القصاصة الأولى الّتي استهلّ بها الدّيوان دون عنوان لأنّها مثّلت مفاتيح لمغالق الشّتات المبعثر بين النّصوص ولتجسّم رغبة الشّاعر في الانطلاق من الذّات وفق توليفة زمانيّة ذات حيّز ثابت منه المنقضي ” ماض جريح” و”حاضر مكسور” فالصّيرورة الزّمانيّة مستمرّة بتصعيد دراميّ مأساويّ امتدّ من الجرح إلى الكسر ثمّ الأشلاء والحزن والرّفات وهي لعمري رحلة الكائن الحيّ الحياتيّة والّتي تنتهي حتما بالرّفات. قصاصة منحها غياب العنوان ميزة الامتداد والإطلاق. قصاصة لخّصت كلّ ما في الدّيوان من تشتّت ووجع واغتراب في كنف الصّمت.
حياة أقرب إلى الفناء والعدم تحت وطأة الصّمت المهرب الوحيد بعمق رفض التّواصل مع الآخر. هي إذن الحيرة الوجوديّة الّتي يفرضها الإحساس بالعجز أمام نكبات الدّهر الّتي تجاوزت الذّات إلى الإنسان إلى الأرض إلى المقدّس.
في هذا المؤلّف سعى الشّاعر إلى رسم لوحة فسيفسائيّة نفسيّة وجوديّة وإن كانت ذاتيّة في عديد المحطّات مثل قوله في قصيدة ” نشيد الصّمت”
أركض مسرعا
أصرخ في وجه الظّلّ
ويقول في ” يوم من عدم”
أغازل الموت الحزين
بجوار قبر القريب
صور شعريّة بعمق دلاليّ قوامه تحدّي الموت.
والشّاعر لا يتحرّر من الموروث العقائدي الدّينيّ باعتماد التّناصّ مع أمثلة شاهدة على انتصار المظلوم على الظّالم فيقول متحدّيا:
قلبي إليك يعقوب
كيف تظلّ محلّقا معصوب العين
مدفون الجثّة في جبّ يوسف؟
فيعقوب ويوسف دالّان على المعاناة والكيد وإضمار الشّرّ لهما في ماض بعيد جريح في شبه بحاضر الشّاعر الّذي يضطهد ويظلم في حاضر بكسر وهمّ وغربة، ليبلغ قمّة القداسة في تناصّ مع السّيرة النّبويّة وظروف نزول الوحي على نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم. فيصرخ:
دثّريني… زمّليني
في قصيدة الملاذ الأخير الّتي فيها يبحث عن مأواه الأخير ليبرأ من جرحه الكسير الّذي سببه ” أرضه المغتصبة”. والشّاعر يوغل في الوجع الانسانيّ كلّه فيقول في قصيدة ” ملامح مثقلة”
سافرت بعيدا ملامح مثقلة بالألم
طاقتها شمس دفينة
تسري بين أودية العروق
تذكرها أوجاع السّنين
توقظ فيها لهيب الحنين
هي خلجات النّفس المتوتّرة الّتي ترزح تحت نير الاغتراب والانعزال في كنف الظّلام تحدّيا لوضع متهرّم آثم. فكلّ مظاهر التّوتّر ارتبطت بالألم والمعاناة والحزن والضّياع والغياب في اشتراك مع غيره فهو يتقلّب بين الأنا والهي والهم والأنت في قصيدة “عيناك”والّتي تبدو في الظّاهر غزليّة عشقيّة بدلالة مرجعيّة نزاريّة ولكلّ من تغزّل بحور العين الفاتنات لكنّ الأمر يتجاوز الغرض إلى تصوير معاناة المخاطبة في لهجة مواساة وترميم يقول:
أمن شدّة وجع الأوهام
بات لهيب الفؤاد نارا
ممتدّة إلى حدائق الأطراف مساء
…
اكتست بوجع عاصف
فهو يرسم معاناته من خلال الشّعر ليتخلّص من ثقل الماضي وسوء الحاضر. هي الجرأة في التّعبير عن المعاناة والألم المتدفّق دون حدود لم تنسّبه إلاّ رقصات الصّمت نبراس الكلمات الّتي صارت ملاذا وصوتا يتحدّى السّكون وجنح الظّلام.
التّجلّي الأهمّ تمثّل في “رقصة النّجوم” كصورة شعريّة بمفعول خارق للقوّة ليكون الوصف لحالات التّقلّب والتّغيّر في “كلمات أسيرة اللّسان” لتحضر النّار وتغيب الشّمس والعواصف تطارد الأفكار كليل يطارد النّهار.
هذا التّشابه مع الأحداث الدّوريّة الطّبيعيّة الّتي يتفاعل فيها مع الذّات في تحدّ لموجود موبوء مضطرب.
5-إنتاج المعنى والتّواصل بين الشّاعر والقارى:
يظلّ النّصّ الأدبيّ بطبيعة تشكّله، إن كان نثرا أو شعرا، مرتبطا بالحالة النّفسيّة الّتي تتزامن مع لحظات الإبداع أو البوح والّتي تحتّم الخوض في تجربة الشّاعر الوجدانيّة الفكريّة الاجتماعيّة والعقائديّة وهذا ما يرسم حدود التّفاعل بينه وبين القارئ الّذي ينخرط في منظومة الـّأثّر المباشر أو غير المباشر بما خطّه الشّاعر من كلمات بقصديّة بيّنة واضحة حينا خفيّة مضمّنة حينا آخر. وفي هذا المجال لابدّ من الانتباه إلى جماليّة التّلقّي والّتي تنبني أساسا على التّجاوب بين القارئ والنّصّ الأدبيّ الّذي يمثّل الحلقة الوسطى بين الباثّ والمتلقّي، إذ يقول الشّاعر مستحضرا قارئا مضمرا في قصيدة ” أنار أم نور؟”
اهجر العبث الزّاحف خلف ظلام السّطور
لا تفسد هجرة
عاشق ملفوف بنار ونور…
من هذا المنطلق يجد القارئ نفسه يتشارك مع الشّاعر في اللّعبة الإبداعيّة القائمة أساسا على تضاريس الواقع المشترك بينهما ولو بنسبيّة معيّنة تختلف باختلاف النّشأة والمستوى العلميّ وغيره مع سعة التّخيّل الّتي لن تتحقّق إلاّ إذا قرّر الشّاعر أن يجعل في النّصّ علامات أو إشارات وومضات تنير درب المتلقّي وتسمح له بالتّخيّل والتّصوّر وفق مشترك معلوم معروف معهود من كليهما، كي يدمجه في عمليّة إنتاج المعنى والكتابة أيضا، خاصّة وأنّ الاشتراك في الأسباب المحفّزة للمعلومة والنّتائج المتوقّعة الثّابتة وارد وهو الرّابط المشترك بينهما المؤثّث للعمليّة الإبداعيّة.
كما أنّ التّشابه مع الأحداث الدّوريّة الطّبيعيّة الّتي يتفاعل فيها مع المتلقّي هو في الأصل انزياح يقصد به العبثيّة الّتي تحكم الكون بأسره كمصير ثابت لا شكّ فيه ولا اختلاف. ففي القصيدة وعبر الكلمات يصرخ الشّاعر ملء صوته ومنه يستمدّ قوّته ليغالب الزّمن والمعاناة النّفسيّة جرّاء رفض الواقع والخوف من المستقبل فيقول في قصيدة” غدر الزّمان”:
هبّت نسائم فجر عليل
تحذّر من مهابّ غدر الزّمان
وتراكم بحر الهموم والأحزان
…بكاء وعويل
هي لوحة مشهديّة بانزياح لغويّ يتعدّى الذّات المفردة إلى الجمع لتجاوز الفعل المحدود المقيّد بزمان معيّن وفق الصّيغة “هبّت” ماض منقض و”تحذّر” مضارع غير منقض ليكون المصدر المطلق في كلّ الأزمنة” بكاء وعويل” عامّ ممتدّ لا قيود زمانيّة ولا مكانيّة تحاصره.
والشّاعر يسحب إليه المتلقّي بالطّلب باعتماد صيغ الأمر أو الاستفهام الّذي قد يكون إنكاريّا لا ينتظر له جوابا وقد يكون صريحا حاثّا المتلقّي على الوعي بقتامة الصّورة وتأزّم الوضع وهو بذلك يذكّر الذّات بالعالم الآخر فيقول:
ما باله لا يرى؟
تراه ما باله
يدمع حين لا يراك؟
أيّ دمع هذا
من تعطّر بملمس محيّاك
أيّ ثرى به رفات هواك؟
بلاغة التّساؤل تجعل الإدراك اليقينيّ محيلا على الشّكّ في علاقة الذّات بالوجود وفق فلسفة الغزالي ” الشّكّ طريق إلى اليقين” يقول في قصيدة ” من الشّكّ إلى اليقين” وهو عنوان لخّص المسألة الحتميّة ” ابتداء من الشّكّ انتهاء إلى اليقين:
بين الشّكّ واليقين تاهت الحروف
صارت أسيرة
بين أمس وغد حلّقت بعيدا
في النّفس الحائرة المريضة
فالشّعور بالعدم والموت الحتميّ ينفي كلّ سواري اليقين الممتدّة على مدى الأزمنة كلّها ماضيها وحاضرها وغدها. وهنا تبرز فاعليّة الكلمات الّتي تصبح وسيلة الشّاعر الّتي تترجم فكر هذه الذّات المتشكّكة حول جدوى الوجود وجدوى الكلمات ومفعولها في الذّات وفي المتلقّي.
والقصائد كلّها ذات إيقاع علميّ سببيّ تبني علاقة وطيدة مع المتلقّي الّذي يعيش التّوتّر ذاته مع الأنا في تداع بيّن على الذّات المتأزّمة. هذه الدّلالات والمعاني تظلّ عصيّة على من لا يمتهن الصّمت كي يتبيّن أسبابها ونتائجها بحكم المنطق والمعقول الممكن.
والشّاعر ولكي يكون أكثر إقناعا للمتلقّي نجده يعتمد التّكرار لإحداث إيقاع دلاليّ للتّركيز على المقصود مثل قوله في ” رقصة النّجوم”:
وعواصف الأفكار تميل مع الدّوران
باللّيل والنّهار
تنقلب من غير إذن أو قرار
كليل يطارد النّهار
والتّكرار مقصود متعمّد لأنّ فيه إلحاح على المعنى المراد ويحيل على موسيقى إيقاعيّة تؤثّر في المتلقّي وتأسر انتباهه وفيها إلحاح على دلالة معيّنة يقصدها الشّاعر مثل قوله في قصيدة “ارحل”
ارحل
ارحل أيّها الظّلّ
ارحل من غير ضجر
ارحل واتركني من دونك كالأسير
ارحل
ارحل.
هو الإصرار على الرّغبة في التّغيير والانعزال وفق منظومة الصّمت الّذي يرغب في إزاحة ما يضرّج الأنا سأما وأسى من واقع مضطرب ثائر عن الموجود في توق إلى الانعتاق ولو بالغياب.
ختاما
يمكننا القول إنّ ” رقصات الصّمت تحت جنح الظّلام” هي في الأصل كلمات تحدّت الصّمت والصّوت والظّلام بلغة مبلّغة مكثّفة ثريّة منتقاة من معجم المعاناة والأسى الكونيّ لتخلّد تراكمات مأساويّة حافّة بالذّات المتفجّعة المتبرّمة من الحاضر الموبوء بالانتهاكات الإجراميّة في حقّ الانسانيّة والكون كلّه. ذات ثائرة على الموجود القاتم المضطرب الّذي تضرّجه الصّراعات التّعسّفيّة الّتي تتجاوز حدود تحمّل شاعر يعيش تمزّقا نازفا بين الموجود والمنشود بين الحقيقة والواقع الّذي عبّرت عنه الكلمات كصوت لم ينفه الصّمت سعيا للخلود والدّيمومة الّتي توثّق الحاضر وما بلغته الانسانيّة من تشوّه طال الذّات المعذّبة المتشظّية بين ماض آثم مأساويّ وحاضر ليس أكثر جمالا ولا سلما ولا انسانيّة.