
أثارت رواية (سيدات القمر) لجوخة الحارثي جدلا واسعا بعد فوزها بجائزة مان بوكر الدولية بين منتقد وناقد ، فقد أشادت بعض الدراسات والمقالات بالرواية في حين رأت بعض الآراء أن الرواية (غزل للقيم الأوربية) وتقدم حلا لخلاص المجتمعات الشرقية بانتهاج النمط الغربي اجتماعيا وسياسيا ، بل ذهب البعض الى حد القول بأن الفوز كان للنسخة المترجمة بعد أن نزعت منها نقاط الضعف في النسخة العربية.
إن هذا الجدل ووجهات النظر المتباينة في صالح الرواية ،حيث تصدر الكثير من الروايات العربية دون أن تجد من يقرأها نقديا.
ومن نقاط الاختلاف المثارة أن الكاتبة امرأة ، ومن سلطنة عمان التي لا تملك رصيدا أدبيا كبيرا في الأدب العربي، وفي واقع الأمر فان العمل الأدبي لا يتأثر بالجندرية حيث لا دخل لجنس الكاتب أو هويته للحكم النقدي الرصين.
وأظن أن ما يسمى ( الكتابة النسوية) في الوقت الراهن لا تمنح رخصة بالتغاضي عن بعض النقائص كما كان الأمر في منتصف القرن الماضي، فالنقد الأدبي يقرأ أي إبداع من داخل النص نفسه : هل يمتلك أدواته الفنية والجمالية ؟ وماهي تقنيات السرد المستخدمة لتقدم عملا فنيا يتمتع بعنصري المتعة والتشويق؟ هل( كسرت الرواية الكليشيهات المتبعة في الكتابة عن العرق والعبودية والجنس ، واستحقت الفوز لما فيها من قدرة فنية إبداعية استخدمت خلالها الأصوات المتداخلة لتجذبنا فنيتها الدقيقة الى مجتمع غني بالخيال)؟(1).
هل أن سيدات القمر (رواية منظمة ومبنية بأناقة ) كما نوهت بذلك لجنة التحكيم؟ والى أي مدى يمكن تصنيفها ( كعمل أدبي فائق العمق والمتعة) (2).
هذه هي الأسئلة التي نسعى الى مناقشتها .
قارئ سيدات القمر لا يجد تيمة واحدة يمكن أن تشكل العمود الفقري للبناء الروائي، هناك موضوعات عديدة ومتشابكة ومنها : صراعات بين سلطة العرف القبلي وحدة مقولات الدين أو صراع الرغبة الجنسية وسطوة التقاليد الذكورية ، أو مناوشة الفروق المفاهيمية بين طبائع الحروب والانتفاضات أو ترسيخ حدود العلاقة المعقدة بين الأحرار والعبيد أو مقاربة الهوية العمانية في علاقاتها بالهويات والاثنيات المختلفة (3).
أرى أن الكاتبة سعت الى أن تقول هذا كله، بل وربما أكثر من هذا في عمل واحد ، كما أنها لم تركز على شخصية أو عدة شخصيات محورية ، ولا يعد هذا نقصا في روايات الأجيال الممتدة على نطاق زمني كبير ، فرواية سيدات القمر ترصد مصائر ثلاثة أجيال لعائلة واحدة على مدى قرن من الزمان ، لكن هذا كله ( تعدد الشخصيات والأجيال والنطاق الزمني الطويل ) أدى الى الوقوع في المزالق الآتية:
أولا إن القاريء غير المتخصص والذي يشكل أغلبية القراء سيجد عنتا في معرفة أسماء الشخصيات وعلاقاتها بعضها ببعض لاسيما أن الكاتبة لم تتبع السرد الاكرونولوجي أي الزمن المتسلسل بل اعتمدت على صوتين ساردين يتبادلان الحكي ، أولهما الرواي العليم الذي يسرد الذكريات منطلقا من الماضي الى الحاضر مستخدما ضمير الغائب والآخر شخصية عبدالله الذي يبدأ من الحاضر متجها الى الماضي بضمير المتكلم ،وهكذا يتناوب الساردان رواية الأحداث عبر الفصول ، وهذا يعني أن الحدث الواحد قد يرويه صوتان سرديان بشكل غير متتابع كما سنوضح ذلك لاحقا.
ثانيا تعدد الشخصيات وتشعب الموضوعات التي تعالجها الرواية أدت الى ما يمكنتسميته بالمعالجة الأفقية للأحداث والشخصيات ولم تحفر عميقا في أي موضوع لتظهر الصراع الداخلي والنفسي كمسألة الرق، والعبودية الجسدية ،والنفسية،والاقتصادية . أما بالنسبة الى الأحداث والموضوعات المهمة التي تطرحها الرواية كحادثة الاغتصاب التي تقع لإحدى الشخصيات أو موضوعة الاغتراب أو بدايات تغلغل المستعمر الإنجليزي أو الصراع بين حكم الإمام في المناطق الداخلية من عمان والسلطان الذي يحكم الساحل أو التمرد الشيوعي في ظفار أو ظهور النفط وبدايات عملية التحديث الخ.. كل هذا تمت الإشارة اليه في متن الرواية وكأنها مانشيتات أوفلاشات سريعة . وهذه الأحداث وغيرها لها نتائج اجتماعية واقتصادية على حيوات المجتمع العماني بكل تأكيد ، لكنها لم تنل حيزا عميقا سواء في وقوعها أو تأثيراتها على شخصيات الرواية.
في مقابل ذلك تسرف الكاتبة في سرد تفاصيل غير مهمة فنيا ولا تسهم في تطور الأحداث كما أنها لا تعمل على تشويق القاريء وأسوق هنا مثالين فقط ومنها ماورد في ص35 حيت نقرأ الاتي:
(..كتاب ابن السبيل بغلاف ورقي عادي ، كتاب المستطرف مجلد بمخمل أحمر ومطبوع بالمطبعة المحمودية بالقاهرة ديوان عنترة بغلاف جلدي وكتبت عليه تعليقات بخط اليد ،كتاب قصص الأنبياء بورق أصفر متآكل مطبوع في كلكتا بالهند ومجلد كبير بورق أصفر وعلى صفحته الأولى الجزء الثاني من العقد الفريد للإمامالفاضل الوحيد شهاب الدين احمد المعروف بابن عبدربه الأندلسي المالكي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته آمين..).
ونقرأ أيضا في ص 60 ما يلي( أعدت ظريفة صينية كبيرة للمياء النفساء: صحن من الأرز والدجاج المطبوخ بالقرنفل والسمن وصحن من خبز الرقاق بالعسل وكمية من التفاح والبرتقال والموز ومليء مغرفة كبيرة من الحلوى..) ، كما تورد في صفحات كثيرة بعض القصائد لكبار الشعراء كالمتنبي وابن الرومي وقيس بن الملوح الخ. وهنا لنا أن نسأل : ما أهمية كل هذا الوصف مقارنة بالأحداث الجسام التي ذكرتها آنفا؟ وهل لو حذفت هذه الصفحات الطوال التي يرد بها ذكر عناوين الكتب ووصف المخطوطات وإيراد أسماء المؤلفين كاملة سيتأثر التطور الدرامي للرواية؟ ولو لم يعرف القاريء لائحة الطعام التي أعدتها طريفة للمياء هل ستتغير مجريات الأحداث؟ .
إن إفراط الكاتبة في سرد تفاصيل صغيرة لا تثري الرواية في بعض الفصول وإهمالها لتفاصيل مهمة كالعلاقة الاستثنائية بين عزان ونجية البدوية الملقبة بالقمر ، وأيضا تفاوت اللغة حيث تكون مكثفة وموحية في بعض المقاطع ومترهلة في مقاطع أخرى مرده –في نظري- الى أن فصول الرواية كتبت في فترات متباعدة زمنيا ، وربما كتبت مقاطع منها على شكل مذكرات شخصية إبان وجود الكاتبة في الغربة بغرض التحصيل الدراسي وتوقها الى ذكرياتها كنوع من الحنين الى الوطن ومن ثم تم تضمينها في طيات الرواية ، وهذا ليس بنقيصة فقد استفاد الروائي صنع الله إبراهيم من يومياته الشخصية ووظفها في روايتيه ( تلك الرائحة) التي كتبها بعيد خروجه من السجن و( نجمة أغسطس) اثر زيارته لمشروع السد العالي، المهم هنا مدى توظيف المذكرات الشخصية في خدمة أحداث الرواية وتطورها الدرامي وأن لا تندرج في اطار الحشو والإطناب الى الدرجة التي قد تبعث على ملل القاريء.
لقد وفقت الكاتبة أيما توفيق باختيارها لبعض الشخصيات وتوظيفها لإيصال أفكار معينة ونجحت كذلك في وصفها وسرد حيواتها ومصائرها والتي يطلق عليها النقاد وصف الشخصيات الحية مقابل الشخصيات الورقية ، وأبرز النماذج للشخصيات الحية تلك التي قدمها نجيب محفوظ كالسيد عبدالجواد في ثلاثيته و سعيد مهران في رواية اللص والكلاب أو سيد الرحيمي في رواية الطريق، وفي سيدات القمر أظن أن شخصية طريفة ونجية البدوية الملقبة بالقمر ومروان المنتحر بخنجر أبيه رغم قصر مساحة ظهوره تعد من الشخصيات التي من لحم ودم . لقد شعرنا بمأساة ظريفة التي ولدت كمستعبدة وعاشت حياتها كبديل عن الأم الميتة أو المقتولة وعوضت السارد عبدالله عن الحنان المفقود وفقدانها لابنها سنجر الذي رعته صغيرا وهجرها كبيرا سعيا وراء حريته من الاستعباد وانتهاء بموتها غريبة في بلد غريب مما سبب تأنيبا لضمير عبدالله من خلال زيارات والده المتكررة له في الأحلام، أمامروان الملقب بالطاهر فيختصر موضوعة وجودية تلخص الصورة التي يريد أن يرسمها له المجتمع ونوازعه النفسية الذاتية والصغيرة المتمثلة في سرقاته البريئة ، ونتيجة لصدام هاتين العلاقتين قرر أن ينهي حياته الممزقة بالفعل.
1-2 بيتاني هيوز-رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر الدولية لعام2019.
3-د.محمد الشحات، سيدات القمر: بعيدا عن خطابات الأزمة، قريبا من النص والتأويل، أخبار الأدب 6/1/2019