مطرٌ وراء القضبان
عنوان -لا شكّ- يطالعنا في بداية الرواية، وهو العتبة التي ندخل إلى النصّ من خلالها، هذا العنوان الذي يشي إضافة إلى العنوان الرئيسي بماهية الرواية، القضبان والمطر، المطر الذي يؤذن بالخير والاخضرار والحياة والبعث من جديد، والقضبان التي تشير إلى السجن. هل يُسجن المطر، أي هل يُسجن الخير؟ نعم إنْ منعنا هطوله على الآخر، وكانت يد الانسان هي المانعة
الإهداء إلى صديقتي السجينة الحرّة التي غيرت حياتي
توقّفت أمام هذه الجملة طويلاً، أحاول أن أتخيّل الحروف وهي تتحول إلى شخوص على الشاشة الكبيرة، صوت المطر ينهمر بغزارة مصحوباً بالرعود والبروق، وبوابة سجن عالية القضبان، والضباب الكثيف يحجب الرؤيا، وهناك خلف البوابة تقف امرأة بثوبها المبلّل تنظر إلى السماء، فينزل المطر غاسلاً وجهها، فيزداد لمعاناً في كلّ لحظة حتى تتحول إلى أميرة كما في الأساطير تأتي غيمة بيضاء تلفّها، وتلتفّ الريح حولها، ويغزلها بسرعة، فيتغيّر المشهد من ضبابي إلى بستان أخضر مليء بالورود والخضرة، وتُفتح أبواب، وتُغلق أخرى، ويتحرّر مسجونون، وتُطفأ نار، وتعلو أصوات الترانيم، وجوق العصافير تشارك في الغناء، وفي طرف الحديقة المطلّة على البحر يتكسّر الموج على الصخور على أعتاب الغرفة الوحيدة التي تسكنها الكاتبة في مخاض مبعثرةً روحها على الصفحات البيضاء، تطارد شبحاً لم يعد موجوداً، ماتت بفعل الحبّ، وعاشت بفعل المحبّة، والغريب أن تولد من بين يديها هذه الرواية التي تحكي قصص نساء خلف قضبان السجن تشاركت معهنّ باللحم والروح، وتقاسمت معهنّ السجن وإن كانت طليقة
بيروت والمطر الذي يبدو وكأنّه يقرع نوافذ السيارة، لكنّه يقرح طبول استدعاء الأطياف، في محاولة يائسة لتخيّل صوت المطر، ولكن شتان ما بين موسيقا المطر وما بين الاتحاد به، يا لغرابة تركيبة جسد الإنسان، تغيب حاسة لتحلّ مكانها أخرى، وتصبح أكثر رهافة وشفافية، عندما نفقد حاسة السمع تجتمع باقي الحواس، وتعمل على تعويضنا المفقود، ولكنه مجتمع فقد الحواس الخمس، من أين يأتي زمن التعويضات؟
المطر بطل الرواية وإن تعدّدت الشخوص إلّا أّن المطر تسيد المكان والبحر، وهذا إن دلّ على شيء يدلّ على شفافية روح الكاتبة وما يمثّله المطر الشاهد على قصة الحبّ في استحضاره عزف ينهض بها، ويحملها إلى البعيد، فتمسح مطر عينيها في محاولة أن تمسح ذاكرة شخص ما
السجن وما أكثر المظلومين فيه، وما يجري خلف جدرانه سجن آخر، والقانون الذي لا يحمي المغفّلين، المجتمع الذي يصبح سجناً أكبر للضعفاء وخاصّة للمرأة التي تصبح أمَة ليس للرجل فقط بل للأمّة نعم وجعهنّ لا يوصف، فهنّ مهمشّات. كتبت إحدى الناشطات في حقوق المرأة، نسيت اسمها: إذا كانت المرأة أمَة للرجل في
المجتمعات البطريركية فإنّ المرأة المعوّقة أمَة للأمة
قالت باريا
“صحيح، خاصّة في الشرق، كلّ يوم هنا يذكّر المجتمع المرأة المعوّقة بإعاقتها”
وجع المرأة لا يمكن لأيّ كاتب أن يصفه كالمرأة، لقد وقفت الكاتبة على بواطن الوجع مجسّدة الوجع، لامست روح القارئ من خلال حروفها، وكأنّي بها من كثرة الوجع كانت في كلّ فصل تهرب بنا تارة إلى البحر تعمّدنا بالمطر، وتارة أخرى إلى الموسيقا، قبل أن نتجرّع وجبة الألم القادمة، ليس من السهل على كاتبة أن تعالج قضية السجينات في بلد يحكمه قانون الغاب، النساء المهمّشات داخل جدران السجن وخارجه ، كلّهن مسجونات، جرمهنّ أنّهن ولدن نساء، منهنّ من كانت في داخل السجن على وجه حقّ، ومنهنّ من سجن نفوسهنّ، ومنهنّ من حُكم عليهنّ بالسجن للإعاقة، وأخريات من سجنهنّ الحبّ من طرف واحد
الرواية نسيج غلب عليه الوجع، مع لغة شاعرية تسمو بالوجع، وفيها من الصور ما جعلها تحلّق في فضاء الشعر
اللغة التي كتبت بها الرواية هي أقرب للشعر، برفقة الموسيقا التصويرية المطر الذي كان مرافقاً طوال الرواية، وكأنّي بالروائية أرادت أن تغسل وجعها ووجعنا بالمطر، ووجع المسجونين ربما لتنقشع الرؤيا، ويصبح كلّ شيء واضحاً ونقيّاً تكشف هشاشة الإنسان، لتزول تلك الغمامة من الفساد والظلم، تطفئ لهب سياط مجتمعات بالمطر، وتبلّل يباب عمر انقضى بالانتظار والمطر
أحداث واقعية ربما هي أقلّ من الواقعية، فمن عايش وعاين حياة السجناء والسجون، والسجن الأكبر سجن الإنسان لنفسه وسجنه من المجتمع لأنّه ولد مختلفاً. الجرائم الأخلاقية أشدّ فتكاً بالإنسان من جرائم القتل، الحياة رخيصة جدّاً في نظر البعض، والموت رقصة جنون لا يمكن لعاقل أن يمارسها