هناء عبيد
يناديها روح رواية للأديبة المصرية نهى عاصم، تقع في ١٥٧ صفحة من الحجم المتوسط، صدرت عن دار غراب للنشر
التقيت بالروائية نهى عاصم من خلال عدة ندوات ثقافية عبر الزوم، وهي أديبة ذات نشاطات متعددة، تقوم بإدارة بعض الندوات الثقافية والأدبية في مكتبة الإسكندرية، شخصية معطاءة ومواظبة على دعوة الأدباء إلى الملتقيات والندوات الأدبية والثقافية المتعددة، روحها معطاءة، لا تختلف كثيرًا عن هالة بطلة الرواية، فهي محاطة بهالة من نور، تزود معارفها وأصدقائها وزملائها بفيض نهر عطائها الذّي لا ينضب
صدر لها ثلاث روايات إضافة إلى هذه الرواية، كما صدر لها مجموعة قصصية. وهي بصدد إصدار روايتها الخامسة
ثقافة الروائية عالية، فهي قارئة نهمة، لهذا نراها تستشهد بأقوال كبار الأدباء والمثقفين، أمثال بتروتسكي ولينين وبيكونين، نجيب محفوظ وغيرهم
ثيمة الرواية
الرواية كان لها تميّزها الخاص، فقد عشت أحداث الرواية وأنا محاطة بروح نهى؛ الصديقة الأقرب إلى القلب، حيث خفة ظلها وطيبة قلبها، ونبع عطائها
تهدي الأديبة الرواية إلى خالها محمد سامي الّذي اقتبست منه اسم بطل الرواية، وهي تدين لخالها بالكثير كما قالت لأنها تعلمت منه الكثير، كما تهديها إلى قراء “يناديها روح” الّتي تعتزّ بهم، إذ لهم ومعهم تكتب
تبدأ الرواية بعتاب أحمد لصديقه سامي بسبب عودته من أمريكا، فالبلد في رأيه تعاني من اضطرابات وعدم استقرار بعد ثورة ٢٥ يناير، لكن الأمور لم تكن بنفس المنظار من قبل سامي الذي يجد ملاذه وسعادته في حضن الوطن، كما حذره صديقه من مغبة اختلاف البيئة على ابنه عمر الذي سيجد صعوبة في التأقلم في مصر، لكن سامي يجد لكل عقبة حلّا، حيث قال: أن عمر سيبقى قليلا ثم يغادر إلى ايطاليا وأنه يحب الاسكندرية وأولاد هالة، ويبدو أن الرومانسية والحنين إلى العشق الأول كان من أهم أسباب عودة سامي الذي أصرّ عليها بعد أن علم بما تمر به ابنة عمه هالة وبما تعانيه من ألم بسبب القصور الّذي لديها في الغدة النخامية في المخ
كانت هالة قد انفصلت عن زوجها بعد أن اتهمها بالجنون بعد عقدين من الزواج ووجود ثلاث بنات وابن بينهما
، ورغم أنها حب سامي الأول إلا أنهما لم يرتبطا بسبب رفض عمه الأمر، فالزواج ساري كثيرا في العائلة، وأدى إلى ولادة العديد من الاطفال المصابين بأمراض ذهنية وإلى موت العديد منهم
رحل سامي إلى أمريكا وأكمل دراسته هناك وتزوج من مصرية ماليزية امريكية، انفصل عنها وبقي عمر بينهما
تناولت الرواية الأوضاع السياسية في مصر خلال أربعين عاما، وعن مدى تأثيرها على المجتمع، وقد أخذت الأحداث إبان ثورة ٢٥ يناير جانبا من الرواية حيث انعدام الأمن والأمان الّذي لمسناه من خلال تعرض سامي إلى السرقة أثناء قدومه من المطار إلى الإسكندرية
ويبدو أن قضية الأدوية والصحة العامة تحتل مساحات كبيرة في مواضيع الرواية العربية، فهي كما يبدو معضلة مشتركة، فالادوية المحلية كما تحدثنا الساردة تتفوق عليها الادوية المستوردة، وبعض الأطباء والممرضات مقصرون في أعمالهم، حيث طالهم الفساد كما حال الوظائف الأخرى، لدرجة أن بعض الممرضات يسرقن الأدوية والغيارات ويستبدلنها بلاصق طبي، وتحدثنا عن ضعف القطاع الصحي بكل عناصره و أشارت إلى الفقر والجوع الذي يدفع البعض ألى بيع جزء من جسمه
من الواضح أن قضايانا المجتمعية تتشابه في وطننا العربي، حيث المطلقّة ووضعها المزري، والتضييق النفسي الّذي تتعرض له ليس لأي ذنب سوى لأنها اختارت أحلى المرين، وليس وضع الزوجة التي تتعرض للخيانة بأحسن حال، فهي رغم ذلك تبقى مع زوجها، وتزيد من الإنجاب مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية التي لا تجد الحلول الناجعة
تشير الروائية أيضًا إلى ما حالت له المجتمعات من قسوة وأخلاق تتنافى مع ادياننا، وتلقي الضوء على وضعنا الذي يرثى له فحتى التاريخ لم يسلم من العبث والتزوير، والكثير من الرموز الدينية والوطنية تم تحطيمها، وأصبحت العيوب الأخلاقية والتناقضات عند بعض الناس واقع يعيشونه، فالبعض يستمع إلى القرآن لكنه لا يتوانى عن فعل الشنائع
وبما أن الرواية تعرضت إلى القضايا المجتمعية، فكان لا بد أن تتطرق إلى قضية الشباب وما يعانوه على كل المستويات، حيث الضياع التام بين نواجذ أيديولوجيات لا تمت لمجتمعاتنا بصلة، وانصهارهم في مجموعات دون الوعي بها، وتعزي ذلك إلى انعدام دور الأب في تنشئة أبنائه، كما تحدثت عن الحوادث التي يتعرض لها الشباب بسبب الدراجات النارية، حيث ينعدم وجود الاحترام لقواعد المرور وعدم وجود الطرق المخصصة لها، وعدم لبس الشباب للخوذيات الواقية
الادب والنشر والثقافة
ولعلني كنت حاضرة في كلمات الكتاب، أرى شخوصه رغم أنها لا تتجاوز الورق، ها أنذا أجلس في تلك الندوات التي تجمع ثلة من المثقفين والأدباء، وها أنذا أراقب ذلك التنافس الذي قد يتحول إلى عداوة لا علاقة لها بالثقافة، حيث النرجسية والأنانية والشللية التي تطيح بالإبداع أرضا، وهاهي الجوائز التي توزع أحيانا جزافا على أقلام معطوبة الكلمات، ومواضيع مسمومة، وأفكار ملوثة تساندها أيديولوجيات تريد أن تجعل من الوطن والمواطن مسخا يتناسب مع ذوي النفوذ، وها هي معاناة كل كاتب دفع من جيبه ثمن مجهوده، وخلافه مع دور النشر التي لا تنتهي؛ لكننا في المقابل نتنفس الصعداء حينما نرى أقلاما نزيهه وأرواحا معطاءة تبذل الكثير في سبيل الإنسانية، حيث الأعمال التطوعية التي ترقى بالنفوس والأخلاق والمجتمعات، ولربما كانت أجمل نزهة فكرية لنا حينما حطت بنا الرحال في المكتبة الثقافية التي أرادت لها هالة أن تحيا من بين عطب بعض النفوس الضعيفة، لتنتعش الكلمة النزيهة ويترفع الفكر عن الترهات، وتتلاقى القلوب الطيبة والأقلام الصادقة والعقول النيرة تحت سقف مبنى على ضفاف شاطئ الاسكندية، مخطط حلم في رواية، نتمنى أن نراه واقعا
الحنين
كم هي مليئة حياتنا بالحنين إلى الأماكن وإلى العشق الذي نبض بأول دقة قلب، وها نحن هنا نعيش الحنين مع محمد سامي الذي رغم كل الرغد والعيش الرهيف الذي كان يعيشه في شيكاغو إلا أنه لم يجد أكثر جمالا من حضن الوطن، ولم يجد اجمل من المطبخ المغلق الذي تتطاير منه روائح الطبيخ العربي المميز، وها هو يشاركنا ذكرياته مع عشقه الأول لهالة وحبه الذي لم تستطع ان تمحيه السنون ولا المسافات
المكان
تأخذ معظم الأحداث مكانها في الاسكندرية ومناطق أخرى سياحية في مصر، حيث جبنا مع قلم السارد في أجمل مناطق مصر، ولكن ذلك لم يمنع القلم من البوح بالحزن لما آلت إليه الإسكندرية بعد هدم بعض الأبنية التراثية والقصور والبيوت القديمة فيها، وكأن السارد يبكي الذاكرة على إطلالها.
وقد برعت الروائية في وصف أبعاد الأماكن البصرية والجمالية سواء على صعيد المدن أو الاماكن الأخرى كالبيوت والمستشفيات والمباني ضمنيا دون جز أو إفراد أجزاء من النص لذلك، في صفحة ٥١ تقول”جلست مع عمي وهالة في غرفة المعيشة التي عشقتها منذ الطفولة، إذ كانت مزيجا جميلا من أثاثٍ يعود لعدة أجيال، مكتبة جدي، أريكة جدي الأسطنبولي، ماكينة خياطة خالتي، وتلفاز ضخم حديث يضفي على الغرفة تناقضا كبيرًا”
كما كان لمدينة الاحلام جزء من الوصف وخاصة مدينة شيكاغو التي عاش فيها محمد سامي الشخصية الرئيسية في الرواية، وضمنيا عرفنا رأيها الصريح بأن أمريكا التي يعتبرها البعض أرض الأحلام ليست جنة الله على الأرض كما يتوهم الكثيرون
شخصيات الرواية
تتنوع الشخصيات في الرواية حسب الحدث، وتأخذ كل شخصية بعدها الفيزيائي والاجتماعي والنفسي، نتعرف عليها من خلال وصف السارد السلس غير المقحم، ومن خلال حوارات الشخصيات
إذ تعرفنا من خلال السرد على محمد سامي، الشخصية الرئيسية الّذي يصف نفسه ضمنيا دون زج في النص في صفحة ٣٦، حيث يقول “نظرت لانعكاس وجهي على زجاج الشرفة، فقابلت جسدا لرجل طويل قوي البنية، يخطو نحو منتصف الخمسينات، تغيرت ملامحه قليلا عن سنوات شبابه، بوجه ذي سمرة مشوبة بالحمرة، وملامح رجولية خشنة، وجبين ذي خطوط تشي بالتعمق الدائم بالتفكير..إلخ”
كما تعرفنا على ابنه عمر الذي سيسافر إلى ايطاليا، من خلال حديثه عن نفسه في الحوارات
ثم أحمد الصديق الخلوق الوفي لسامي الذي ينصحه بعدم العودة من أمريكا بسبب تردي الأوضاع
أما هالة ابنة عم وابنة خالة سامي فنستشعر روحها من خلال حديثها كما تتمثل أمامنا أبعادها الجسدية، “وجهها صغير كوجه القمر صغيرة الحجم”، حيث نتلمس ذلك ضمنيا من خلال الحوار الداخلي لسامي. في صفحة ١١ مثلا يقول “بدت كأخت تكبرهن بسنوات قليلة وليس أمهن، ومثل وجهها الصغير كان جسدها إذ تبدو إلى جانبي كقزمة”
هناك أيضا ابنتها ندى المنقبة والتي تلبس القفازات، وتقرأ مواضيع واحدة، وتخاف من الدم ونديم الابن الأصغر الوحيد الذي يشعر بالحنين إلى والده بسبب الفقد الكثير الذي صدمه، والذي تتأرجح مشاعره وملامحه بين المراهقة والرجولة، وصراعه الذي ادى به إلى الانضمام إلى جماعة أهل القرآن، وهو يقرأ ويكتب الانجليزية
ثم نهى دودة القراءة، والتي أرى فيها “نهى عاصم” الروائية القارئة النهمة
ثم نور التي تقرأ عن الفنون والرسم. وهكذا نتعرف على الشخصيات تباعا ضمن النص دون أن نشعر بالاقحام في صفاتهم وأبعادهم المختلفة، وبهذا نعيش الكلمات وهي متجسدة أمامنا ليس بالحدث فحسب بل بأرواح واجساد الشخصيات
تقنيات السرد
يبدأ السرد في الحاضر ثم يتحول إلى الاسترجاع حيث انتقال سامي من تيار اليسار إلى أحد التيارات الدينية دون اقتناع، إنما فقط بسبب صدمته بأن اليهود كان لهم دور في الحركة اليسارية في مصر، ثم ترك السياسة ليذهب إلى أمريكا. وعودة إلى الذاكرة والاسترجاع ثانية لعشقه الأول، والعودة إلى الغربة والطائرة والسفر بعد أن أصبحت أحداثا ماضية بعد عودته إلى مصر، وهكذا نعيش الحاضر والماضي من خلال تقنيات الاسترجاع والسارد سامي الّذي يسرد لنا بضمير المتكلم ليقرب القارئ من الأحداث، ويعطيها أكثر واقعية، ثم ينتقل إلى السارد العليم الذي يحدثنا عن هالة وحبها للصحافة وعمه وذكرياتهم، ويأتي دور الحوارات الّتي تنوعت بين الداخلية والخارجية لتحدثنا الشخصيات عن نفسها
اللغة
لغة الرواية تتبع السهل الممتنع، جاءت سلسة، متينة، قوية، وشاعرية في كثير من الأحيان، تقول في صفحة ٣٦ “انحسر غطاء رأسها فجأة كاشفا عن شعر أحمر ناعم، وبدا وجهها الأبيض الجميل كشمس أشرقت بعد غيم، فأصابتني حالة شوق ورغبة وشعور قاتل بالحنين إليها”
رواية يناديها روح؛ رواية الحاضر والماضي، تزخر بمواضيع العصر، وهي قيمة أدبية ثرية تضاف إلى رفوف مكتباتنا العربية