لنا وقفة مع ما كتبته الأديبة إخلاص فرنسيس من نصّ شعريّ نثريّ ثريّ بالصور والرموز عن الخريف ” صفق الخريف “، قراءات متعددة كلّ منها تكشف بعدًا جديدًا في المعنىٰ، والبنية، والتجربة الشعورية، قراءة في رمزية النص، قراءة في الشعور العاطفي، قراءة في جمالية الأسلوب، قراءة فلسفية وجودية، قراءة في النبرة الأنثوية..

صفّقَ الخريفُ بأجنحتِهِ الصفراءِ
فتطايرتْ أحلامُ الشجرِ
تعرّتِ الأغصانُ من أمانيها
والغيمُ يهذي
يتسلَقُ سلمَ الريحِ مسافراً
وجفَّ دمعُ الزهرِ
وخلفَ صخرةِ الغيابِ الرماديةِ
يتكومُ نبضُ الفصولِ قبلَ السقوطِ بدمعةٍ
أيها الهواءُ الباردُ
زرْ شفتي، وأطفئْ جمرَها
أيها القصبُ أسعفْ أناملي بعزفكَ
لأطارحَ الورقَ شهادةَ الأفلاكِ المأمولة
أيتها الألوانُ أشعلي الكلماتِ بالدفءِ العليلِ
أكبحي جموحَ عاشقةٍ ضارعةِ الفؤادِ
بترنيمةٍ تشدّ عروقَ اليدِ
فتنزفُ نوراً
تعتصر اللواعجَ
تفي نذراً لمن تعلّقَ بهِ الروحُ”
” اخلاص فرنسيس “
نبدأ برمزية النص، حيث يمكن أن يُقرأ النص بوصفه رمزًا للحياة وفصولها المختلفة بما تحمل من مشاعر إنسانية، فالخريف هنا لا يمثل فصلًا طبيعيًا فحسب، بل مرحلة تكون الحياة فيه جاثية على ركبتيها، او قد يرمز للانكسار أو الفقد، وكذلك إلى تطاير أحلام الشجر وتعرّي الأغصان من أمانيها يرمزان إلى الانكشاف الإنساني أمام الألم..
الغيم يهذي ويتسلّق الريح؛ صورة لاضطراب الذات في مواجهة الرحيل أو الخسارة، والنهاية تحمل بصيص رجاء: فـ”العزف” و”النور” و”الدفء” إشارات إلى محاولة استعادة الحياة رغم الجفاف والغياب.
الشعور العاطفي، او التأثر النفسي يأتي من خلال النص كتعبير عن حالة وجدانية مشحونة، فيها صراع بين الشعور الداخلي المتأجج والبحث عن حالة من الخلاص، فالكاتبة تتحدث بضمير المتكلم، وكأنها تتوسل إلى الطبيعة لتكون شريكًا في تضميد الجراح والبوح، ” أيها الهواءُ الباردُ زر شفتي”، “أيها القصبُ أسعف أناملي “، ” أيتها الألوان أشعلي الكلمات “.
هذه الاستغاثة توحي بحالة الشاعرة النفسية وكأنها تلفها الوحدة والحنين وتوهج بين الكلمات، وهي أقرب إلى التراتيل الشعرية، فيها بحث عن التطهّر عبر الفنّ والعزف واللون؛ ” تعتصر اللواعج وتفي نذراً لمن تعلّق به الروح “، وتكون ذروة النص حيث يتحول الألم إلى وفاء وعشق روحيّ طاهر .
أما عن جمالية الأسلوب فالنص يؤخذ من عدة زوايا، زاوية اللغة والبناء ؛ حيث ان النص يقوم على توازنٍ دقيق بين الصورة والمجاز وموسيقى النص، وزاوية الأفعال ؛ (صفّق، تطايرت، تعرّت، يهذي، يتسلّق، جفّ…) فهذه الأفعال تشحن النص بالحركة والانفعال، وتعطي الروح للنص رغم أن المشهد خريفيّ ساكن في ظاهره، واستخدام النداء المتكرر (أيها، أيتها) يمنح النص صوتا وإيقاعًا صوفيًا ونَفَسًا مسرحيًا ؛ كأن الشاعرة في حوار مع الكون، والصور مركّبة ومتصاعدة نحو الاحتراق بالنور، وهي ذروة فنية فلسفية تودي إلى فكرة الانبعاث من الألم .
والقراءة الفلسفية ( او الوجودية) تظهر جلية بين السطور، فيمكن أن يُفهم النص كـ تأمل في معنى الفناء والتحوّل؛ الخريف رمز للانطفاء الذي يسبق التجدد، ” نبض الفصول قبل السقوط بدمعة “؛ إشارة إلى وعيٍ حادّ بلحظة النهاية، حيث يمتزج الوجود بالعدم، ومع ذلك، يظلّ في النص صوت الروح الذي يصرّ على النور رغم الانطفاء، وهذه قراءة للإنسان في مواجهة مصيره، للروح التي تبحث عن معنى في دوّامة التحوّلات والانتقال.
النصّ يحمل نبرة أنثوية واضحة؛ ” عاشقة ضارعة الفؤاد “، تعلن عن ذاتٍ رقيقة وشفافة، لكنها قوية في حبّها ووفائها، وساندت شخصيتها بعناصر الطبيعة (الريح، الغيم، الزهر، القصب، الألوان) ليست زخرفاً، بل تحالفًا مع الطبيعة ضدّ الفناء.
في هذه القراءات، الشاعرة هنا تُعيد صياغة صوت الأنثى الحالم الذي لا يستسلم للذبول، بل يحوّله إلى وهج من إبداع ..

السبت ١٩ اكتوبر ٢٠٢٥، قميم / الأردن