د. عاطف الدرابسة – الأردن
هوشنك أوسي كاتبٌ ذو رؤية تحاولُ نقدَ الخطاب المؤسسي ، سواءٌ أكان هذا الخطابُ دينياً أم أيدولوجياً ، ولعلَّ الأمر اللافت للانتباه أنَّه لا يجعل القارئ يبحثُ عمَّا يجعل النصَّ الأدبي عملاً فنياً جماليَّاً ، وإنَّما يجذبه نحو الرؤى والأفكار ، ففي هذه النصوص الثلاثة يُحرِّرُ ما هو جمالي ، ويختزلُ ما هو تاريخي ؛ وأعني هنا بالتاريخيِّ ما هو مسكوتٌ عنه ، وما هو مُهيمن
ويظهر لي هذا الكاتبُ بأنَّه يخضعُ لثقافةٍ فطريةٍ ومُكتسبَةٍ ، تسعى إلى خلخلةِ الأنساق الثقافية المُهيمنة من نحوٍ ، وإظهار الأنساقِ الثقافيةِ المُضمرَةِ على السطحِ ، كما يتَّضحُ من عنوانِ نصِّوصه الثلاثة : المهدي غير المُنتظَر ، فنلحظُ أنَّ العنوانَ قائمٌ على فكرةِ المُغايرة ، ليخلقَ مهديَّاً آخر ، أو مرويَّة أخرى غير مرويَّة المهدي المنتظَر ، أي مهديٌّ على غيرِ صورةِ المهديِّ المُهيمن تاريخيَّاً ودينياً ، فإدخاله لمفردةِ (غير) يجعلُ القارئ يتجه نحو مهديٍّ مختلفٍ يتضادُّ مع المُهدي المُسيطر
لا عزاءَ لي
على فقدان نهرٍ
رعيتهُ خيطَ ماءٍ واهنٍ
سقيتهُ خيالي والمَجازَ، حتّى غدا هادرًا، يهددني
يتوعَّدني على المنابر والمعابر، بالويل واللّيل
ينسبُ إليّ، ما لقواميسِ الشِّياطين
من فصاحةٍ، ومهارةٍ على أسرِّةِ العشيقات
ودهاءٍ قدُّوسٍ على طاولات القِمار
في المقطع السابق ، يُحرِّض الكاتبُ المُتلقي على التفكيرِ ؛ فهو يرفضُ أيَّ جنسٍ للعزاءِ في فقدانِ هذا النَّهر ؛ وهو نهر المعرفة والخطابِ الديني المُهيمن ، أو المتأصل في العقلِ الديني الشرقي ، ولذلك ينفذُ إلى تفكيكه بقوله : (سقيتهُ خيالي والمَجازَ) ، ففي هذه العبارة يُملي هوشنك على المُتلقي معنىً واحداً ، يقومُ على فكرةِ أنَّ ما هو ديني لم يكُنْ إلهيَّاً ، وإنَّما كان من صنع البشرِ وأخيلتهم ، فهو خطابٌ مجازي جعله البشرُ أسطورةً . إذن فالراعي الحقيقي والساقي الحقيقي لهذا الخطاب هو الإنسان
إنَّ هوشنك هنا يُفكِّكُ ما هو ميتافيزيقي ، أو ما هو وراء الوجود لينقضَ فكرةَ المركز ، فيُحدث تحولاً جذرياً في هذه الفكرة ، وعنده لم يعدْ الإله هو مركزُ الكون وإنَّما هو الإنسان (الراعي والساقي)
إنَّ تضخم هذا الكائن المعرفي وتحوله إلى كائن أسطوري متوحِّش ، جعله هو المُسيطر والمُهيمن والمُستبد حتى صار يُهدِّد مَن رعاه وسقاه
ويكشفُ هذا المقطع عن جدليَّة الوحي والشيطان ، كما يظهر من قوله
ينسبُ إليّ، ما لقواميسِ الشِّياطين
من فصاحةٍ، ومهارةٍ على أسرِّةِ العشيقات
ودهاءٍ قدُّوسٍ على طاولات القِمار
إنَّ هوشنك هنا يُعرِّي الفكر الأصولي باعتباره رافضاً للإبداع ، أو رافضاً لكلِّ ما هو خارج عن الدين ، فالخطاب الأصولي يرفض كل ما هو إنساني ، لأن المُلهم فيه هو الشيطان ، فالفعل الإنساني هو فعل شيطاني ، وفكرة شيطنة الفعل الإنساني تؤول إلى مفهوم الحرية عند هوشنك ، فالخطاب الأصولي يعتبرُ على نحوٍ ما أنَّ الحرية هي فعلٌ شيطاني
لعلَّه من الواضح أنَّ العلاقات التي يُقيمها هوشنك بين النص وبين ما هو أيدولوجي أو ديني ليست علاقة ترفية أو مجانية بالرغم من أنَّ هذه النصوص لا تفرض معناها على القارئ بصورة فورية ، وإنَّما تفرضها عبر رموز شفافة تنطوي على التلميح والإيماء ، وقد أسهم البناء اللغوي في بلورةِ العلاقة بين النص ومقولاته كما يبدو من قوله
لا عزاء لي، ولا باب
لا معبد لي، لا محراب أو سرداب
لا عمارَ، لا خراب
لا حقائق لي، ولا سراب
أنا ماضٍ، يضارعهُ حزنهُ
ماضٍ ناقص، يرفضُ الاكتمال
مغلولٌ ومعطّل، لا أمرَ له
لا يمكنُ ردُّه عن طيشه
ولا الردَّ عليه بأفعالٍ تامّةٍ، كاملةِ النقصان
ماضٍ تكالبت عليه الضّمائرُ تودُّ التهامهُ
كالتهامِ التماسيحِ فرائسها
إنَّ اتكاء هوشنك على (لا النافية للجنس) يشي بالنفي المُطلق ، والاغتراب الحقيقي عن واقعٍ معاصر يعيش بفكرٍ ماضوي ، فيبدو الكاتبُ (لا شيء) ، بلا باب أو معبد أو محراب أو عمار أو سرداب أو خراب ، فهو فاقدٌ للهُوية والكينونة ، وحين يحاولُ أن يُقدِّم لنا هُويَّته ينعطف نحو الجُمل الخبرية بقوله
أنا ماضٍ، يضارعهُ حزنهُ
ماضٍ ناقص، يرفضُ الاكتمال
مغلولٌ ومعطّل، لا أمرَ له
لا يمكنُ ردُّه عن طيشه
ولا الردَّ عليه بأفعالٍ تامّةٍ، كاملةِ النقصان
ماضٍ تكالبت عليه الضّمائرُ تودُّ التهامهُ
كالتهامِ التماسيحِ فرائسها
إنَّ هوشنك هنا حين يجعل نفسه ماضياً مُشوَّهاً فإنه يحاول تفكيك العقل القديم ، القائم على خطابٍ مُعطِّلٍ ومُعطَّلٍ ، كما يظهر من التوازيات المُتضادة : (ماضٍ يضارعه حزنه / ماضٍ ناقصٍ يرفض الاكتمال)
إنَّ الكاتب هنا يُظهر بالتلميح والإيماء أنَّ العقل الماضوي غالٌّ للكاتب ، فالكاتبُ في بحثه عن الاكتمال والتحرر يبدو مُحاصراً ، تتكالبُ عليه مخرجات الخطاب الديني لتُمارس عليه فعل التعطيل باعتباره قوة مُغيِّرة
وفي نصِّه الثاني الذي يبدأ بعبارة (قبل قليلٍ) ، يحاول هوشنك الانتصار على ذلك الماضي الذي استعار له رمز الليل الطمَّاع ، ويبدو أنَّه نجح في دفنه والانتصار عليه بالكلمة / القصيدة ، كما يظهر من قوله
قبل قليل
على مقربة من نهايةٍ بصيرةٍ ومذعورة، لا تقترب
دفنتُ ليلاً طمَّاعًا، حسودًا، نمَّامًا، عاشَ حقيرًا
وماتَ جلاّدًا أميرًا
دفنتهُ في قصيدةٍ تتنفّسُ كالأسماك، وتنامُ كالغزلان
والقصائدُ مدافنٌ بريشٍ وأجنحة، أحيانًا
دفنتهُ، قبل أن يدفنني في نجاسة التّاريخ
ويحفرَ اسمي على لائحةِ القدّيسين
غير أنَّ المعركة بين المبدع المُغيِّر والماضي المُهيمن لم تنتهِ
دفنتهُ، ولستُ نادمًا على الأشياء التي اقترفتها
كلّما دفنتُ ليلةً مقمرةً في مقبرةِ النّصوص
أعلمُ أنَّ هناك من يتهيّأ لدفني في مقابر النّسيان
كلّما واريتُ ليلةً ظالمةً مظلمةً في ثرى الكلمات
يواريني رمادُ حكاياتي، قائلاً
مَن اعتادَ عذاب الدّنيا، لن يؤلمهُ عذابُ القبر
إنَّ هوشنك وهو يرفض أن يكون قديساً في خطاب الماضي المُهيمن ، يتنبأ بموته ؛ فالماضي المُهيمن لا يمكن أن يُدفن في قصيدة ، أو أن يحارب بالكلمة لأنَّ جذوره متأصِّلة ، وهذه الجذور ما زالت تعمل وتشتغل لتدفنَ وتقهرَ كلَّ مَن يحاول التغيير ، أو كلَّ مَن يحاول هدم أساطير الميتافيزيقا ، تلك الأساطير التي تتكلم بصوتِ الإله ، وتتلفَّعُ بعباءةِ الدِّين
ولعلَّ الأمر اللافت للانتباه أنَّ هوشنك وهو يُعاينُ هذا الموجود يصلُ إلى ذروةِ العبثِ والسُّخرية بقوله : (مَن اعتادَ عذاب الدّنيا، لن يؤلمهُ عذابُ القبر) ، فالدنيا عنده هي القبر الكبير وعذابها بوجود ذلك الفكر المُهيمن أشدُّ من عذاب القبر
وفي هذيانه الثالث ، أي نصه الثالث ، تظهرُ نزعته النيتشويَّة ، ويغلبُ عليه التشاؤم ، والقلق ، والنظرةُ إلى مصير الإنسان ؛ ومفتاح هذا النصِّ كلمة (أطفالي) ، وهي موازٍ وجودي للإنسان ، فبدا الإنسان بكلِّ مقطع يبدأ بعبارة (أطفالي) محوراً للشرِّ ، ومصدراً للحروب ، وكأنَّ يستلهم نيتشه في نقده للقيم والأخلاق
أطفالي الذين أنجبتهم من أشجار التّين
مشغولون عنّي بالقتال على ملكيّة أرضٍ مسوّرةٍ بالخرافة
أطفالي الذين أنجبتهم من كروم العنب
منشغلون بإدارة طواحين هوائيّة، وباراتٍ عتيقة
يرتادها قادة، فلاسفة، رجال دين، لصوص وقتلة
أطفالي الذين أنجبتهم من كروم الزّيتون
يتبعهم الغاوون، ولا يتبعونني
منشغلون في ارتكاب جرائم أخرى، بالنّيابة عنّي
أمّا أطفالي الذين أنجبتهم من علاقاتٍ عابرة
مع المشعوذات والسّاحرات، بناتِ الليل، الأرامل والمطلّقات
هم أيضًا مشغولون بضبط مواعيد
نومهم في ملاجئ الأيتام
واستيقاظهم في التوابيت التي تنجرها الحروب
مثلما لم ينتظرني أحد، لن يعزّيني أحد
وفي المقطع الأخير هنا يبدو التماهي كبير جداً بين رؤيته ورؤية نيتشه في العدم ، وكأنَّ الإنسان عنده لا شيء
لن يهتدي أحد إلى جنازتي
سيكونُ يومُ الجمعة في استقبالي
حينَ أساقُ مشيّعًا على كتفيّ يومي السّبت والأحد
كمهديٍّ غير مُنتظر
لا رغبةَ لي في الحزن والحداد على شيء
فقدتُ الرّغبة بالفرح، شرب القهوة
ممارسة الحبّ وكتابة الرّسائل
هكذا، يوميًّا؛ استقبل غدي
بمثل ما ودّعني أمسي
وأمضي
في ماضٍ، ليسَ يمضي
إنَّ هذه النصوص مجتمعةً تكشف عن وعي تاريخيٍّ عميق عند الكاتب في فعل الثقافة المُهيمنة ، فلا مهديَّ ولا مسيحَ مُنتظر ، والخلاص لا بدَّ أن يكون نابعاً من الإنسان نفسه ، فما نحن إلا صورةٌ من سيزيف
وهكذا نحن إزاء كاتب يرفضُ ثقافة الوحي والإلهام الغامض والمُلغِز ، كما يرفض ما هو موروث باعتباره أسطورة ضخَّمتها الذات الشرقية ، ولذلك لا بدَّ من الانعزال عن كلِّ ما هو تاريخي ، ولا بدَّ للإنسان أن يتحرَّر من تلك الأنساق المُغلِّة ، وأن يكون نازعاً إلى التغيير بقواه الذاتية ، فالمهديُّ المُنتظر أو المسيح المُخلِّص ما هما إلا صورة عن ذلك الماضي المُهيمن ، وأمَّا المهدي غير المُنتظر فهو ذلك المهدي الذي يصنعه الكُتَّاب والمبدعون والفنَّانون ، وهو وحده القادر على تحرير العقل من أوهام الماضي