بقلم د. دورين نصر
كتاب “ظلّ النّعناع” للأديبة إخلاص فرنسيس الصّادر عن منشورات دار سائر المشرق، يتألّف من إحدى وأربعين قصّة، تحاول الكاتبة من خلالها أن تنقل المتلقّي إلى عالمها الخاصّ، فيشعر بأنّه صار شريكًا معها في حزنها وفرحها، في عزلتها وفي رغبتها في الانعتاق، في غربتها عن الوطن وحنينها إليه.
كلّ هذه الثّنائيّات الضّدّيّة أدّت دورًا بارزًا في تشكيل كيان النّصوص في المجموعة قيد الدّرس.
الواقع، إنّ المتتبّع لهذه القصص يدرك أنّها ترسم صورة تقريبيّة لتحوّلات الذّات ونضجها. فموضوعات النّصوص تبدو متعدّدة ومختلفة، لكنّها تشكّل في سياقها العامّ وحدة كلّيّة تهيمن عليها الشّخصيّة الأدبيّة.
والجدير بالذّكر أنّ الأسلوب الشّاعريّ الطّاغي عليها يضع المتلقّي في مأزق، إذ يتساءل عن الحدث في ظلّ هيمنة الوظيفة الشّعريّة الجماليّة. فبين الحقيقة والحلم، ترسم الذّات المتكلّمة ملامح عالم جديد لا يشبه الواقع المليء بأخبار الموت والتّشرّد.
تتّخذ الكاتبة من القصّة الأولى المعنونة “النّورس” رمزًا للرّبط بين عالم الخيال وعالم الواقع، إذ تقول: “أعادني إلى واقعي صوت النّوارس التي تحاول أن تلتقط السّمك على الشّاطئ، كنت الوحيدة المجهولة في هذه المدينة الكبيرة”. ما يشي بحالة الضّياع التي تعتري الذّات، فتتغيّر بالتّالي دلالة الكلمات الموظّفة في النّصّ. أذكر على سبيل المثال الميناء الذي تحوّل من مرفأ للسّفن إلى مكان تُؤدّى فيه التّحايا للجثث التي تطفو على سطح المياه.
وترسم لنا الكاتبة في القصّة الثّالثة: “الوداع”، مشهدًا آيلًا إلى السّقوط لحظة الوداع، موظّفة ضمير الغائب لتترك مسافة بينها وبين المتلقّي. هذا الأخير لا يملك أيّ معلومة عن البطل، فكأنّ ملامحه غائبة، وكأنّها اندثرت في لحظة أليمة: “لكنّه يشدّ يده على المقعد”، “يحاول أن يطرد دمعة”، “يتململ على المقعد”، “يخفي شيئًا ما”، “يتمتم إلى القبر”، كلّ هذه الجمل الفعليّة التي تصدّرتها أفعال مضارعة أدّت دورًا بارزًا في نقل المشهد النّصّيّ من حالة السّكون والجمود إلى حالة فيها حركة. وذلك يعود إلى هذه الميزة في الأفعال المضارعة لأنّها تملك القدرة على رفد الحدث بحرّيّة الحركة والانطلاق واستيعاب الموضوع رغم حالة الموت المحيقة بالمشهد العامّ.
مقابل هذه الجمل التي تبدأ بأفعال مضارعة، نلاحظ وجود جمل فعليّة أخرى تبدأ بأفعال ماضية:
“تمتمَ وشدّ عنقه”، “ومسح وجهَه”، و”استدار إلى المقعد الذي في جانبه”، “ومن جديد اندفعت زفرة من صدره”، “كأنّ يد الواقع صفعته”، “لفحت ذكرى أنفاسها عُنُقَه”، “اللّعنة كيف تركها ترحل”.
في الواقع، يفيد الماضي وقوعَ الحدث أو حدوثَه مطلقًا، كما ويدلّ على حدوث شيء قبل زمن التّكلّم. فدلالة الصّيغة الإفراديّة على وزن “فعل” توحي بحكاية الحدث. والمقصود من ذلك أنّ الفعل يعبّر عن معنى تفيد به الجملة، ويعود السّبب إلى ارتباطه بحوادث وقصص وذكريات يستعيدها المتكلّم، كما يؤسّس التّقابليّة بين حاضر مليء بالقلق والحزن، والحقبة التي سبقت زمن التّلفّظ. وجاءت دلالات صيغة الماضي في قصّة “الوداع” لتوحي بومضات مفصليّة من الذّاكرة، فتآزرت هذه الدّلالات لتنتقل بالمتلقّي إلى جوّ الذّكريات، إلى الحقبة التي سبقت زمن التّلفّظ حيث يؤكّد البطل حنينَه إليها:
“دخل يتأبّط باقة الورد العطشى إلى الماء”، “كما عطشُه إلى حضن يطول نحو الأبديّة”.
كذلك ورد في المقطع الأخير من النّصّ ما يلي:
قال مخاطبًا الورود: “ينبغي أن تعيشي”. استمرّ في الحديث ومداعبة كلّ وردة على حدة: “مدّ أصابعه القصيرة يخرج منديله من جيبه”. وانتهى النّصّ بالجملة التّالية: “عليكِ أن تبدئي حياة جديدة، قال مخاطبًا باقة الورد، أنتِ وأنا وحدَنا”.
إنّ هذا الانتقال في الضّمائر من المخاطبة إلى الغائب، أدّى دورًا بارزًا في التّحكّم بطاقات النّصّ التّعبيريّة، كما أكّد صدق التّجربة المتأرجحة بين الألم والأمل في بداية جديدة.
وفي نصّ: “أعطته يدها”، نلاحظ أنّ إخلاص فرنسيس تمارس فعل الاختراق إلى ما وراء الكلمة، فتتحوّل اللّغة إلى أداة تنقل من خلالها ما يعتمل في داخلها من مشاعر وأحاسيس. وليس اللّقاء بين الحبيبين إلّا محاولة للعبور والانعتاق، ومحاولة للانتقال إلى رحاب حركة تنبض حياة واعدة، مُشَرَّعة على أمل ورجاء.
ويطغى صوت الأنوثة على النّصّ، إذ تقول: “كيف لكِ أيّتها المرأة، ومَن علّمك أن تُحيي رميم رجل قد طحنته عجلة الزّمن، ورزح تحت أقدام العمر، يُحصي ثواني الحياة التي تعبرُه؟”، “مَن علّمك أيّتها المرأة الآتية من غياهب البحر، ومن خلف الموج الأزرق، تحملين بيمينك شعلة من نور، ورغيفًا من خبز الحياة، وحفنة من زيت؟”.
انطلاقًا ممًا تقدّم، يتحصّل أنّ الفكر، حين يتكلّم بشكل شعريّ، فهو يقدّم نفسه إنصاتًا لمقال اللّغة، من حيث هي مقطنُ الوجود وحقيقتُه[1].
وتخرج الكاتبة في قصّة “قطّ كسول” من إطار تجربتها الشّخصيّة لتجعل الوجع حالة عامّة وقاسمًا مشتركًا بين معظم الكتّاب في الدّول العربيّة، حيث تتعرّض طبقة المهمّشين إلى التّعذيب. وتجدر الإشارة إلى أنّ الكتابة في هذا العصر صارت تعبّر عن هموم الإنسان المعاصر وتقدّم رؤية جديدة إلى العالم.
والواقع، إنّ هذه الحالة العامّة من الحزن، خلقت عند الكاتبة حالة من الضّياع ورغبة في العزلة، إذ تقول: “مع صعوبة تبسيط ما أشعر به، أغدو كأنّني أقف أمام الباب المغلق، وقد أضعت المفتاح، هكذا لست أنا فقط، بل كلّ مَن نظر حوله بعيني، وتعرّت أمامه كلّ حقائق الحياة”.
هذا ما أعطى النّصّ بُعدًا وجوديًّا، إذ جعل الذّات تعيش صراعًا داخليًّا، عبّرت عنه الكاتبة بصور ومشهديّات تلامس حدود الشّعر، بل تدخُل إلى فناءاته.
وإذ تستغرق الكاتبة في مُكاشفتنا بهواجسها، تأتي قصّة: “أمسية دافئة” في أواخر تشرين، أثناء غروب الشّمس، حيث الطّبيعة تبدو مدهشة:
“الجمال يكمن في هذا الجبروت القويّ، ألمسه بيدي، كأنّي ألمس حلمًا جميلًا”. وينتصر الحبّ على الموت في النّهاية، إذ تصل إلى نتيجة بأنّ “الوعي الأكبر للحبّ”.
هكذا تبيّنّا من خلال هذه النّصوص التي يطغى عليها الوصف، هويّة الكاتبة الحالمة الرّومنسيّة التي تنتصر على الحزن بفعل الكتابة.
وتستمرّ السّرديّة الانسيابيّة في نصوصها التي يشكّل الصّراع الدّاخليّ عمودها الفقريّ، وكأنّها تعزف سمفونيّة توقّع نوتاتها نَبْضات قلبها. ولا تتوانى إخلاص فرنسيس عن العودة إلى الماضي في قصّة: “نحت في الأزقّة القديمة”، إذ تقول: “هذا البيت المترع بالضّحك كما الدّمع”.
“إلى الفتاة الخجولة” “كتب في زاوية اللّوحة التي تتوسّد الحائط في هذا المنزل المنكوب”.
ويبقى الماضي في هذه اللّوحة التي أعادت العائلة إلى تداعيات الانفجار، حيث “الوالد يبحث عن ابنته، ينتظرها كلّ صباح ليعدّ لها الفطور دون ملل ولا كلل”.
فعالم إخلاص فرنسيس هو عالم متداخل كتداخل الحلم والواقع، هو تلك المساحة والبرهة بين الأرق والنّوم، “الأنا والأنت”، “الشّخص وظلاله”.
وفي قصّة: “لا تنسني”، تعرض الكاتبة واقع فيروس كورونا الذي يسيطر على العالم حيث تعطّلت الحياة في الخارج، ما أدّى إلى جفاء في الرّوح. ولكن في خضمّ هذا الواقع الأليم ينبعث الأمل من قصّة حبّ بين شابّ كان يقف في الزّاوية تحت الشّجيرات على رأس الشّارع، يتأمّل الفتاة التي كانت تترك الحجارة الملوّنة على جانب الرّصيف، وقد كتبت عبارة باللّغة الإنكليزيّة: “لا تنسني”.
إنّ كلّ هذه المؤشّرات المتوافرة في النّصوص توحي بوجود زمن جماليّ، إضافة إلى زمن عاطفيّ وجدانيّ يقوم على تناوب أوقات السّرد، حيث يحدّد التّعاقب الوجدانيّ الإيقاع العاطفيّ على مستوى مقاطع النّصّ الكبرى والصّغرى. وعليه ترتكز مستحدثات الأسلوب على تركيب للمعنى وليس على تغيير فيه. من هنا الانفعال الجماليّ وطبيعته المتبرّجة الإبداعيّة.
فالانحسار الذي هيمن على زمن السّرد الوجدانيّ في هذه القصص عامّة يدلّ على حاجة في نفس الكاتبة للتّعبير عمّا تعانيه، وعلى حاجة في نفس المتلقّي ليعيش معها تقلّبات الأحوال.
إنّ هذه النّصوص الأدبيّة لبوسُها أقصوصيّ، ومتونُها وجوهرُها خواطر وتجلّيات، تنمّ عن فكر إنسانيّ عميق، تؤشّر إلى ثقافة واسعة وتجارب ذاتيّة، تنتظم في سلك متين، يمتدّ من ألف الأقاصيص إلى يائها، وكأنّنا أمام مجموعة أشجار مثمرة، كلّ واحدة تختصّ بنوع من الثّمر شهيّ، يضمّها بستان واحد.
يحلو لي أن أختم بكملة للكاتب ستفنسون (Stevenson)، يثمّن فيها دور الفنّ القصصيّ، على الصّعيد الحياتيّ: “إنّ أغلب الكتب المؤثّرة والأصدق أثرًا، هي الرّوايات والقصص. فهي لا تلزم القارئ بقصيدة، سيكتشف عدم دقّتها لاحقًا لا محالة، ولا تلقِّنهُ درسًا سينساه حتمًا فيما بعد […] بل هي تحرّرنا من نفوسنا وترغمنا على معرفة الآخرين”.
[1] –اللّغة والمعنى: مقاربات في فلسفة اللّغة، إعداد وتقديم مخلوف سيّد أحمد، بيروت، الدّار العربيّة للعلوم، ناشرون، 2010، ص 229.
