
“غناء الفراشة ” Francis Eklas
عبدالجابر حبيب
غناء الفراشة
سأرتكبُ الكثيرَ من الحياةِ
وأنا أنتظرُكَ
سأكونُ أكثرَ امتلاءً
وأكثرَ استرخاءً
وأكثرَ اهتماماً بالأملِ
فأنا نادراً ما أتطفّلُ على الحزنِ
وحدَهُ
يبحثُ عن وريدي
يتآلفُ معَ نبضي
وكأنّه الفرحُ الأسمى
وأحياناً أخرى
يسكنُ فوقَ جبيني
وكأنّهُ قبلةُ أبي
يهمسُ في أذنيّ
يسكنُ عينيّ
وحينَ ينضجُ الانتظارُ
أتورّطُ بالرّيحِ
أرفعُ أشرعةَ حلمي
ألمسُ أهدابَ الغيمِ
تقبلُ شمسُ المغيبِ
فأصيرُ فراشةً
تلعبُ بالضّوءِ
تأمرُ القصبَ بالغناءِ
إخلاص فرنسيس
11-11-2020
********
القراءة …….
في قصيدة “غناء الفراشة” للشاعرة إخلاص فرنسيس، تنبع اللغة من عمق التجربة. قصيدةٌ تكتب الفصول على جسد الطبيعة،تتدفق كلماتها بسلاسة نسيم الربيع على جناحي الفراشة، قصيدة لا تحتاج إلى قيود الوزن.
منذ السطر الأول، تُعلن الشاعرة تمرّدها الجميل على العتمة “سأرتكبُ الكثيرَ من الحياةِ وأنا أنتظركَ”
عبارة تتجاوز حدود الفعل المألوف لتؤسس منذ البداية حالة انزياح يجعل الحياة نفسها فعلاً قابلاً للاستمرارية بأي لون، كأنّ الوجود مغامرة شعورية لا تخلو من المخاطرة والجنون.
في غناء الفراشة تبدو اللغة كائنٌ حيّ يتنفّس داخل النص. الشاعرة تمارس على اللغة انزياحاً هادئاً ومدروساً، فتجعل الحزن يبحث عن وريده، وتُحوّل الانتظار إلى نضج، والريح إلى حليفٍ للحلم.
كل مفردة تؤدي دوراً إيحائياً يتجاوز معناها المعجمي. فالـ”ريح” ليست ظاهرة طبيعية فقط، وإنما رمز للحركة، والانطلاق، والـ”غيم” ليس غطاءً للسماء بل أهدابٌ للحلم.
إنها لغة تشتغل على الحافة بين التجريد، والملموس، بين الشعور، والفكرة، لتصنع صوراً تنبض بالدهشة، والصدق معاً.
بينما تحمل القصيدة على المستوى الدلالي، و الرمزي أبعاداً متشابكة، تبدأ من الانتظار وتنتهي بالتحوّل إلى فراشة.
الانتظار في القصيدة ليس سكوناً، بل رحلة داخلية في ذات الشاعرة “وحينَ ينضجُ الانتظارُ أتورّطُ بالرّيحِ”
تربط بين النضج والتورّط، أي بين اكتمال التجربة والدخول في المغامرة.
أما الفراشة التي هي المحور الذي تدور حوله الدلالات السيميائية، فالفراشة؛ هي صورة للتحوّل والانعتاق من ثقل الانتظار. فهي الكائن الذي يولد من الشرنقة لتعشق الضوء المبهر.
والقصب الذي “تأمره بالغناء” ليحول الصمت إلى غناء، هكذا تكتمل دائرة الحياة التي تبدأ بالحلم وتنتهي بالإبداع.
نعم إلى إبداع ضمن إيقاع موسيقيّ داخلي
الإيقاع في “غناء الفراشة” ينبع من داخل اللغة لا من خارجها.
فـتكرار الأصوات الهادئة مثل (سأكونُ، يسكنُ، يهمسُ) يخلق موسيقى ناعمة، تقابلها إيقاعات متصاعدة مع الأفعال ذات الحركة (أرفع،
ألمس، أتورّط).
هذا التوازن الصوتي يعكس التحوّل الشعوري في النص من الهدوء إلى الحركة، ومن الانتظار إلى التحليق.
كذلك تعتمد الشاعرة على تقطيع الجمل الشعرية بإيقاعٍ بصريّ متأنٍ، بحيث يبدو كل سطر كنبضةٍ في القصيدة. وهذا ما يجعل النص قابلاً للإنشاد بصوتٍ داخلي حتى في صمته.
وتصبح الكلمات على هيئة صور جميلة لكائنات تعيش في أحضان الطبيعة، وتلتحم ذات الشاعرة مع تلك الكائنات المسافرة في روحها.
الشاعرة لا تصف العالم الخارجي، بل تذوب فيه:
“أرفعُ أشرعةَ حلمي / ألمسُ أهدابَ الغيم / تقبلُ شمسُ المغيب.”
ولا نستغرب حينما تتحول الشاعرة إلى كيانٍ كونيّ، تُدرك الأشياء لا من خارجها بل من داخلها.
الصورة الشعرية عندها ليست زينة بل طريقة لرؤية العالم، ومن خلالها نلمح التدرّج الجمالي من الحزن إلى الأمل، ومن الألم إلى النور.
حتى قبلة الأب على الجبين جاءت كاستعارةٍ للحماية والطمأنينة، وكأنّ النص يوازن بين دفء الذاكرة وبرودة الغياب.
قصيدة تتحدّث بنبضٍ إنسانيّ، بمشاعر تتدفق بانسيابية، ونلمس ذلك في صدق الشعور وهدوء التعبير؛ فالشاعرة لا تصرخ بالألم، بل تهمس به، ولا تبوح بالحبّ علناً، بل تتركه يلمع بين السطور.
انسياب الجمل وتدفقها بلا عُقد لغوية يمنح القارئ شعوراً بأنه يسمع نغمة داخلية صاعدة من القلب مباشرة، نغمة بين الرغبة والخوف، بين الانتظار واليقين.
هكذا استطاعت الشاعرة أن تخلق توازناً بين الشكل والمضمون، بين الفكر والإحساس، بين الصورة والفكرة، بين الرمز والمباشرة، وأن تُظهر جمال الحرية التي يتيحها الشعر الحر دون أن تفقد اللغة انضباطها الجمالي.
فالرمزية لم تكن عبئاً على المعنى، بل وسيلة لإثرائه. والفراشة لم تكن زينة لغوية، بل جوهر التجربة الشعرية ذاتها.
إن “غناء الفراشة” ليست قصيدة عن انتظارٍ أنثويّ أو حنينٍ إلى الآخر، هي تحوّل داخلي للروح.
من الحزن إلى الأمل، من الصمت إلى الغناء، من الإنسان إلى الفراشة.
بهذا الانسياب اللغوي والرمزي والإيقاعي، تتحوّل القصيدة إلى لوحةٍ حيةٍ مرسومة في الطبيعة، تُغنّي فيها الشاعرة للحياة، كأنها تقول لنا في ختام النص:
إن الجمال لا يُكتَب بالكلمات فقط، بل بما تتركه اللغة من أثرٍ يشبه رفرفةَ جناحٍ في لحظة يأس، أو طلوع برعم من تحت الرماد.