ناصر عراق
حدثت منذ 88 عامًا في المحلة الكبرى
في أحد الأيام من عام 1935 خرج الصبي منهكًا من المصنع الذي يعمل به بالمحلة الكبرى، سار متلفعًا بالهمّ والفقر، ينطوي باطنه على حزن كبير بعد أن فقد والده قبل سنوات قليلة. تذكر الأيام الخوالي حين كان ينعم بالذهاب إلى المدرسة يتلقى العلم ويبتهج بالتفوق، ثم يأسى على حاله بعد أن خطف غول الموت روح أبيه، إذ أجبرته المقادير على أن يترك المدرسة هو وشقيقه الأكبر، لينخرطا في خضم العمل بالمصانع وعمره لا يتجاوز الثانية عشرة، وأخوه لم يبلغ الرابعة عشرة بعد
هام الصبي على وجهه في شوارع المدينة الصناعية الوليدة، يستقبل نسائم طرية تهب من الحقول القريبة، بينما الشمس على وشك تقديم استقالتها من السماء هذا النهار، وفجأة تناهى إلى أذنيه موسيقى شجية وصوت يطرب له كثيرًا
إنه صوت عبد الوهاب ينبعث من جرامافون المقهى القريب. هُرع الصبي نحو المقهى، وبحركة لا إرادية دسَّ يده في جيب بنطاله عسى أن يعثر على نكلة تائهة أو مليم شارد، فلما لم يجد كما توقع، انتبذ من المقهى مكانًا قصيًّا، وجلس على الرصيف حتى يستطيع أن ينصت إلى مطربه المحبوب وهو يشدو بقصيدة (أعجبت بي بين نادي قومها/ ذات حسن فمضت تسأل بي/ سرّها ما علمت من خلقي/ فأرادت علمها ما حسبي) للشاعر مهيار الديلمي (شاعر فارسي أسلم وعاش في بغداد ومات عام 1037 م)
اقترب من الصبي جرسون المقهى ذو القسمات الخشنة عاقد الجبين ونهره آمرًا إياه أن يبتعد عن الرصيف حتى لا يزعج الزبائن. لم يتحرك المفتون بـ(بلبل حيران وفي الليل لما خلي) قيد أنملة، لكنه رجا الجرسون أن يسمح له بالجلوس حتى ينتهي عبد الوهاب من الغناء
هنا بالضبط، لانت ملامح الجرسون.. وارتسمت على محياه علامة رضا، فانحنى قليلا وجذب الصبي برفق من ياقة قميصه القديم، وسأله وهو يدري الإجابة مسبقًا: (هل تحب عبد الوهاب؟)
لم ينتظر الجرسون الرد إذ دعا الصبي للجلوس داخل المقهى، وأكرمه بأن أحضر له كوبًا من الشاي، فلما أبدى الصبي حركة بيديه توضح أنه لا يملك أي مال، ربت الجرسون كتفه وقال برقة تخاصم ملامحه الجهمة: (لا يهم، فيكفي أنك تحب عبد الوهاب)
استمتع الصبي بالأغنية وتلذذ بالشاي، وظل يردد في خاطره أبيات الشعر في القصيدة التي كتبها مهيار، فلما جاء إلى القاهرة عام 1940 واستقر وتزوج وأنجب، علَّم أبناءه السبعة عشق الفن والأدب، وتبجيل العلم والعلماء، ورعاهم حتى نالوا أرفع الشهادات الدراسية ووصلوا إلى مناصب مرموقة في الدولة، لكنه لم ينسَ أبدًا كرم الجرسون (المحلاوي) وعشقه لعبد الوهاب
هذه واقعة حقيقية سردتها لشاعرنا الرائد الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي في إحدى جلساتي معه، فاندهش أول الأمر، لكنه قال لي بعد أن تفكر مليًّا: (إن الصبي والجرسون من أبناء ثورة 1919 التي نقلت المصريين من حال بائس إلى حال رائع)
نسيت أن أخبرك أن هذا الصبي هو والدي المرحوم عبد الفتاح إبراهيم عراق المثقف العصامي المذهل، الذي غاب عن دنيانا قبل 28 سنة بالضبط، وبالتحديد في فجر 12 مارس من عام 1995
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي