جورج عازار
عاد في ظهيرة ذلك اليوم وقد استولى الإرهاق على جسده فيما كانت حبيبات العرق تلتمع فوق جبينه أخذ يحثُّ الخُطى مسرعا ً، حينما بدا يتصوَّر المرحلة المقبلة، فمن المؤكَّد أنَّ زوجته الآن تضع أطباق الطَّعام الشَّهي على الطاولةِ، في انتظار وصولِهِ القريب
وبعدَ لحظات كان قد وصل أمام منزله، وأخذ يصعد الدَّرجات بتكاسلٍ واضحٍ وصل إلى الطَّابق الثَّاني، أراد أن يبحث عن مفتاح البيت، لكنه آثر أن يقرع الجرس من أجل كسب بعض الثَّواني، ومن أجل أن يوفِّر على نفسه مشقَّة التفتيش عن سلسلة المفاتيح في جيوبه العديدة، فتحت زوجته ريما الباب، فألقى عليها تحيَّةً سريعةً وانسلَّ إلى الدَّاخل وهو يسألها: هل الطَّعام جاهز، وفيما كان يغسل يديه، اقتربت منه وقد صمتت للحظاتٍ، لكي تهيِّئ له جواباً مرضياً: اعذرني حبيبي تأخَّرت اليوم في العودة من العمل، ولكن لا تهتم سأعدُّ لك الطَّعام في دقائق معدوداتٍ
نظر إليها بانزعاجٍ واضحٍ، رمى المنشفة من يده وقال: وهل تعتقدين أنَّني يجب أن أنتظرَ لساعاتٍ أخرى حتّى تباشري بالإعداد والتّحضير، هذا غير معقولٍ، ردَّت ريما: التَّأخير في العمل كان بسبب اجتماع طلبه المدير مع الموظِّفين، ولم أكن أنا السّبب في التَّأخير، ورغم هذا عدتُ قبلك إلى البيت وأنا على وشك تحضير الطَّعام، أنا أيضاً مثلكَ جائعة ومتعبة، فاصبر قليلاً ليست نهاية العالم.
رفعت كلماتها وتيرة الانفعال عند حسام فاحتدَّ أكثر فأكثر، وارتفع صوته مجدَّداً: لستُ مسؤولاً عن تأخيركِ في العملِ، سبق وأخبرتكِ أنَّني عندما أعود من عملي، أكون متعباً وجائعاً وأريد أن يكون الطَّعام معدَّاً ولا داعٍ لأن تبدَئِي بإعداده الآن عليك أن تقدِّري ذلك، طلبت منه أن يخفض صوته لأنَّ الأمر لا يستدعي كل هذا الغضب، ولكن بلا جدوى فقد عاد مجدَّداً إلى هياجه وصراخه بشكل أعلى من السّابق، ثمَّ توجَّه نحوَ الباب وهو يسمعها آخر كلماته الجارحة: من الواضح أنَّكِ لستِ قادرةً على تحمُّل مسؤولياتك والاهتمام بزوجك وبشؤون البيت
أطبق الباب خلفه بقوةٍ وعنفٍ فأجفلها الصَّوت المنبعث عنه، جلست على الأريكة القريبة والألم يكاد يمزقها، تمتمت بحزن: هل صرتُ الآن بالنسبة لك مهملةً لبيتي، لأنني مرغمةً تأخَّرت اليوم على إعداد الطّعام، أهذا هو حسام الّذي أحبَّني وأحببته لسنواتٍ طويلةٍ، أهذا هو حسام الّذي أبذلُ أقصى ما أستطيع في سبيل سعادته وراحته؟ مسحت دمعتها بألمٍ وحسرةٍ وغرقت في الصّمت
أما هو فقد أخذ يسير في الطُّرقات، كانت نوبة الهياج التي اعترته قد أنسته شعور الجوع، فألغى فكرة التَّوجه إلى أحدِ المطاعم، كانت خطواته تتسارع على إيقاع أفكاره الّتي كانت تعتمل داخله، وتجول في خاطره ضمن حواراتٍ متواصلةٍ ينجزها دماغه بلا ترتيب وعلى عجل
وعندما مرَّ بجانب إحدى الحدائق قرَّر الدُّخول إليها، ارتمى على المقعدِ الأوَّل الّذي صادفه هناك ليستريح، كانت ثورة غضبه قد أخذت تخبو رويداً رويداً حتى صارت أقرب إلى ومضاتٍ خفيفةٍ، وضع رأسه بين كفَّيه وبدأ يراجع تفاصيل الموقف السَّخيف الَّذي افتعله، ارتفع الصَّوت الآخر في داخله معاتباً ماذا فعلت ولماذا؟ أليستْ هذه هي ريما الّتي هام ويهيم بها الفؤاد؟ … ريما الَّتي طالما كتبتُ لها قصائد عشقٍ رقيقةٍ … أتهون عليك تلك العيون الَّتي مزجت بين الأجفانِ سحرَ الغاباتِ البكرِ وحنين اشتياقات العاشق إلى لقاءٍ حميمٍ من بعد غيابٍ… ريما الَّتي في عينيها موج البحر وعمق الفضاء… ريما الَّتي أعطت للكونِ معنى وللحياة مغزى…عد إليها، مَن غيرها يضمدُ جراحاتك وينسيك آهاتك ويرسم بسمة فرحٍ على شفاهكَ، تخفِّفُ عنك وطأة الأيّام الثَّقيلة وتحمل معك هموم العالم الكئيبة، لتلقيها بعيداً في المتاهات المنسيّة
ازداد شعوره بالذَّنب بافتعال مشكلاتٍ لا ضرورة لها، تذكَّر ما قالته له والدته ذات يومٍ عن أن بعض الرِّجال إذا ما افتقدوا المشكلات، يخلقوها وروتْ له حينها طرفة عن رجلٍ سألوه لماذا طلقت زوجتك فأجابهم لأن جسدَها كان يهتزُّ عندما كانت تعجنُ العجينَ، أطلق ضحكةً خفيفةً وهو يتخيَّل تلك المرأة المسكينة وهي تحاول جاهدةً ألَّا يهتزُّ جسدها وهي تعجن استجابةً لأوامرِ زوجها وذرائعه المجحفة، ولكن بلا جدوى
كانت قد مضت فترةً من الزَّمن شعرَ أنَّه كان مخطِئاً وشعر بالشَّوق إلى ريما، يزحف إلى حناياه من كل الجهات، ازدحمت مشاعر شتّى وعواطف مختلفة في داخله وازداد حنينه وشوقه لها مختلطاً بمشاعر أخرى، نهض عن المقعد وأخذ طريق العودة إلى البيت، ولما وصله أدخل المفتاح في قفل الباب وأداره بهدوءٍ ثمَّ ولج إلى الدَّاخل، كانت هي خارجةً من المطبخِ، نظر إليها فتأمَّلت عينيه بتمعُّنٍ كانتا تبوحان باعتذاراتٍ رقيقةٍ، اضمحلَّ حزنها حين رأت عيني حسام الَّذي يعشقُها وتعشقُهُ، وشيئاً فشيئاً صار الحزن عتاباً ما لبث أن تحوَّل بدوره إلى غنجٍ أنثويٍ ساحرٍ يعشقه، ضمَّها إلى صدرِهِ بقوَّةٍ، فاستسلمت لعناقِهِ الحار
همسَ في أذنِها أحبُّكِ، تلك الكلمة الَّتي تعشقُ كل امرأة سماعها، أغمضت عينيها لتستمتع بصدى تلك الكلمة العذبة، غابت معها لتسرح بخيالها للحظاتٍ بمتعتها وعندما استفاقت من نشوتها تذكَّرت أنّه لم يتناول غداؤه بعد، همست بصوتٍ خفيضٍ سأسخِّنُ لك الطَّعام، وبلا وعيٍ ردَّ عليها ليس الآن لستُ جائعاً، وما أن أنهى جملته حتى انفرجت شفتاها عن ابتسامةٍ ماكرةٍ فأراحت رأسها فوق كتفه فغطى شعرها وجهه، تنشَّق عبيرها بعمقٍ قبل أن يسود الصَّمت بينهما ويسكتان عن الكلامِ المباح لتتأجَّل وجبة الغداء المفترضة وتتحوَّل إلى وجبة عشاءٍ متأخِّر جدَّاً