أمـين الجـرادي
أدت ولادة قصيدة النثر في أوروبا، وانتشارها في بقية أنحاء العالم إلى تحول في أسلوب الكتابة الشعرية، وتأسيس سمة مشتركة بين الآداب العالمية. هذه الظاهرة الجديدة في النشاط الكتابي الإبداعي كانت نتيجة النشاط الفكري الهائل، وتبادل الأفكار بين شعوب العالم، – خصوصاً بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية- مما أتاح لهذا المولود- قصيدة النثر- أن يكتسب وصمة ثقافية عالمية
صحيح هناك من يعشقون قراءة الشعر التقليدي، ويقلقون من غرابة قصيدة النثر لأنها لا تتناسب مع الأسلوب التقليدي المعروف، لكن ما أريد توضيحه أن هذا النمط الجديد من التعبير هو ما ميز الكتابات خلال الحرب العالميتين الاولى والثانية، ولا يشك أحد في أن المشهد العالمي وعلى كافة الأصعدة -بعد هذين الحدثين الكبيرين- قد تغير تماماً وأصبح عالم ما بعد الحرب غير عالم ما قبله
تقول سوزان برنار في كتابها – قصيدة النَّثر من بودلير إلى أيَّامنا: “ولدت قصيدة النثر من التمرد ضد كافة انواع الطغيان الشكلي التي تمنع الشاعر من أن يخلق لنفسه لغة شخصية
ولأن قصيدة النثر من وجهة نظر النقاد هي النص الواسع والبوتقة التي تتمدد كرؤية تاريخية ومستقبلية على الساحة الأدبية يقول الناقد العراقي جمال قيسي “قصيدة النثر هي الخطاب الشعري الأخير للتاريخ الذي يلفظ أنفاسه، وهو في طوره الزوالي من ناحية الإبداع والخلق البشري، علينا أن نتصور الانسان القادم بلا مخيلة أو أحلام ومجتمعات بشرية بلا عواطف أو مقننة في أعلى حساب ممكن ان نتصوره ، أشبه بأجواء رواية ( بلاد الأشياء الاخيرة ) لـ بول أوستر.”
قصيدة النثر هي الخلاصة العبقرية والكيان الأخير لكل الكتابات الشعرية، فهي كما تقول سوزان برنار، تهدف إلى أن تذهب إلى ما هو أبعد من اللغة، وهي تستخدم اللغة، وأن تتمرد على الشكل وهي تخلق أشكالاً متعددة. هذا التناقض الداخلي وهذا التعرض الاساسي، هو ما منحها طابع الفن الإبكاري، لتصبح نموذجاً مفتوحاً لجهود كل الشعر في السنوات السابقة، وستظل بنفس الزخم والنقاشات المفتوحة ونقاط الاختلاف إلى ما لا نهاية، هذا ما يجعلها هي النص المفتوح للتعبير عن الطموحات العميقة والنفس الخفي وتحركات الروح الغامضة
عادة ما تنتهي الحروب الكبرى بسلسلة من الظواهر، بعضها طبيعي وبعضها اجتماعي وبعضها سيكولوجي، ما ينتج عن ذلك ولادة مذاهب ومدارس وإتجاهات فكرية وسياسية وثقافية جديدة، وينبغي على العقل أن ينصاع ويستمع إلى صوت التغيير، لأن عدم قبول ذلك يعني رفض الحياة والعيش على الواقع
يقول شريف رزق- في دراسة نقدية له تحت عنوان: إشكاليات النوع النثري في قصيدة النثر- مجلة الكلمة، العدد 35، نوفمبر 2009 – ملف: “لقد نجحت قصيدة النثر في تفجير الطوق الحديدي للتقاليد والوصايا التي كانت روح الشعر تختنق بها: القافية والعروض وكافة قواعد الأبيات الكلاسيكية وأيضاً قواعد الاسلوب الشعري. وهي بذلك تشكل خرقاً حاداً لكلّ الأعراف الشِّعريةِ السابقة عليها، ويكمن موقعُها الإشكالي في كونها طرحتْ شتّى مكونات العملية الشعرية التّاريخية، وتشكلت كنوعٍ شعريِّ مُغاير، استعصى قياسه على غيره”
حتى ظهور قصيدة النثر، يقوم الشعر التقليدي على التتابع المنطقي في أي جزء من أجزاء السياق، وفي السياق كله أيضاً، وما خرج عن ذلك يعتبر خارج اطار القصيدة. أما قصيدة النثر فتقوم أساساً على التتابع العاطفي والنفسي وتتابع الذكريات. طريقة البناء هذه لا تختلف عن ما يسمى بترابط المعاني غير ذات الصلة في التحليل النفسي. ويبقى أن ظهور الأساليب القائمة على التتابع العاطفي وعلى التداعي اللا مترابط، هو إحدى نتائج الثورة على العقل، أو بطريقة أدق الثورة اللاعقلانية التي اجتاحت أوروبا في القرن العشرين
في مراحل كتابتها المختلفة تتقدم قصيدة النثر باستمرار من الملموس/ الخاص إلى العام، ومن التجربة المادية إلى التجربة المجردة، ومن العاطفة إلى الفكر، وبرغم ذلك لا تزال قصيدة النثر تحتفظ ببعض القضايا الجوهرية الثابتة. ويؤكد رواد قصيدة النثر، ان الاسلوب الجديد في الكتابة، لا يعني الابتعاد عن الماضي وجوهر الشعر التقليدي، لكنه يدعم الجوهر والأصل، وعن هذا يقول ت. س. إليوت: “الزمن الحاضر والزمن الماضي كلاهما مشتمل في الزمن المستقبل. ولعل الزمن المستقبل مشتمل في الزمن الماضي.”
غرفة 19
- إنسـان فيتـروفيـوس- للفنان الإيطالي ليــونــاردو دافـنـشـي، 1487
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم