نحن لا نظهر في حياة أحدهم صدفة ، حتى وإن بدا الأمر وكأننا قفزنا من المجهول ،الحقيقة هي أننا موجودين دائما وفي مكان قريب جدا لكنه غير مرئي لسبب ما ،سبب مجهول يحجبنا ، وبصدفة منسوجة بعناية فائقة، يكشفنا القدر فنظهر على السطح وكأننا قفزنا من زاوية مجهولة ككائنات الصدفة ، لكنها الصدفة التي ستغير حياتنا، وحياة آخرين قفزنا في الهوا لأجلهم غالبا !!
عندما شاهد الأستاذ (غريغوريوس)، الذي يعمل أستاذًا للغات القديمة في كُلية برن في سويسرا ، ذات صباح باكر وماطر وغائم كذلك ، وهو في طريقه للجامعة ، فتاة تقف على حافة السياج الحديدي للجسر ، تهم بأن تلقي بنفسها في النهر ، جرى اليها غير مصدق ان فتاة في هذا العمر النضر ، يمكن ان تقدم على هذه الحماقة ، مد اليها يده ، وبنظرة ممزوجة بالرجاء والبكاء والامتنان، أعطته يدها لينتهى الموقف وقد سارت بجانبه الى مقر عمله ، دخلت الفصل معه ، ثم دخلت حياته من ابوابها التي اغلقها على نفسه منذ سنوات .
اختفت الفتاة من الفصل بشكل مباغت ، تاركة معطفها وبداخل المعطف كتاب ، خرج الاستاذ خلفها ، لكنه اخفق في اللحاق بها ، فاستقل قطار المساء متوجها الى لشبونة دون سابق تخطيط ، وهناك حيث تداخلت الأمكنة والأحداث والذكريات ، وتدفقت المشاعر والوجوه والأسماء والأفكار ،لتصب كلها في نهر روحه التي نسيها منذ زمن طويل !
هناك تعرف على المجهول الذي جاءه ساعيا دون تفكير تاركا الدنيا كلها خلف ظهره : جامعته ، تلاميذه ، بيته .. كل شيء ، لقد تبع طرف الخيط الذي كان في جيب معطف الفتاة ، الكتاب الذي بقي في المعطف المعلق على مشجب باب الفصل قبل ان تغادر . في لشبونة استيقظ تاريخ يخص حقبة تاريخية في البرتغال ، تاريخ المقاومة ونضال الشباب وخلافاتهم وخياناتهم ايضا ، هناك ارتفع ضجيج اسئلة الاستاذ الذي اكتشف انه قد نسي حياته زمنا طويلا وقد آن له ان يستعيدها ويستقل قطارا اخر الى وجهة أخرى هي ذاته !
الرواية ساحرة بالفعل ، لكن لا القطار ولا الليل ولا لشبونة هي ما قصدها الروائي ، انه يقدم لنا دعوة لكي نقطع تذكرتنا الخاصة بحثا عن ما نسيناه فينا ، عما أهملناه في ارواحنا ، عن الانسان الذي تركناه غريبا مهملا في محطة منسية تماما كحال غريغوريوس استاذ اللغات الخمسيني الذي انتهى به الأمر وحيدا مع كتبه في شقة فارهة يلعب الشطرنج مع نفسه قبل ان تظهر فتاة الجسر في حياته ذلك الصباح لينتهي وقد تغيرت حياته تماما بعد تلك الرحلة !