د. علي حجازي
أيّ صدفة هذه التي ساقتني إلى لقائه في هذا الصباح الذي أمشي فيه سعياً منّي إلى ترويض رجليّ مع هذه الروح التي جرجرها العمر علّة هواه زمناً، فرأيته، وليتني لم أره
واقفاً جنب حائط سباق الخيل مأخوذاً بمشاهدة الخيول وهي تستعدّ للسباق
اشتعلت الذكريات السعيدة في رأسه، فانهمرت الدموع منسربةً من مآقي الجمر الغافي على أحلام مسفوحة، وأخذت ترسم خارطة الألم والقهر والحسرات على عزّ مضى ، ومجد تليد راح (قال عادل ذلك وأضاف)
بائع الكاز مشغول بحمل التنكة المملوءة ، وبالجري وراء ذلك الزبون الذي طلب إليه إيصالها إلى المنزل القريب
ما الذي يجذبني الآن إليه، إلى روحه المعذّبة، وجسده الهزيل؟
لعلّ تلك النظرة الثاقبة النافذة إلى مرآة جسده الهزيل الذي هدّه التعب، وأعماق روحه التي كانت ترجّع آيات العتب، هي التي هيّجت الذكريات في روحي المعذبة ، وجسدي الهزيل بعد هذا التقاعد المقيت. (همست)
دنوت منه، من وجعه وحسراته ، مسّدت رأسه، ورفعت الكدانيتين المثبتتين جنب عينيه، واللتين تحرمانه الرؤية الجانية من الجهتين، ثمّ مسحت الدموع التي همت عفواً منه، فارتعش كمن مسّته كفّ من حنوّ وحنين، ورنا إليّ، فتعانقت أحداقنا. وبعدما رنا إليّ مستفسراً سرّ هذه اللمسات الدافئة التي بعثت إلى روحه رسائل المواساة التي افتقدها طويلاً
حاول جاهداً أن يحمحم ، فانكسر الصوت في حنجرته التي ضغط عليها الحبل كثيراً، فاختنق الكلام في فيه
أسرعت إلى إبعاد ذلك الرسن الثقيل الذي سدّ عليه مجرى البوح فاستراح
نبهتني حوافره التي شرعت توقّع على أرض الرصيف إيقاعات شوقه الدفين إلى العَدْوِ المستحيل بسبب وزن هذا “الطنبر” الثقيل. فدنوت منه وهمست
هيهات هيهات. لقد ذهب العمر يا صديقي، فكلانا نرجو ماء زلالاً من برق خلّب. أو من سراب كاذب …
ابتعدت عنه قليلاً وأخذت أتمتم بصوت مسموع:
“الله! ما هذا الذي أرى
أين السرج وعدّة السبق؟ أمن العدل أن تتكسّر رايات العزّ على ظهر يشدّ الآن صهريجاً من التعب؟
أمن اللائق بهذا الجواد العربي الأصيل الذي راهنت عليه آمال عديدة أن يلقى هذا الجحود؟
لعلّ الذي يعذّبه الآن توقه إلى استرجاع مجد غابر، واستعادة عزّ راح يشدو آيات الغضب؟”
– أدن مني من فضلك، لأفرغ ما في روحي التي أطفأ جذوتها هذا الكرب في جعبة روحك المثقلة بالهموم، فأستريح. (قال بصوت خفيض)
– مساحة الوجد كبيرة، لا همّ في غمّ جديد، تفضّل (قلت)
– هذا الذلّ الذي أُحمله في الحارات والشوارع والترب، هو ما يشعل في كياني ما بي من غضب.
وهذا الصوت الزاعق في أذنيّ اللتين اعتادا سماع أصوات المشجعين يكاد يقتلني.
طول النهار يخترق روحي وبدني، لم يغادر ولم يغب:
كاز كااااز كاز
كاز كااااز كاز
بربّك قل لي
أيرضيك هذا المصير الذي أواجهه الآن بجلد، بعد ذاك المجد الذي غبر وغرب؟
– ضاعفت أوجاعي، هات ما عندك وبما ترغب.
– حرّرني، فكّ رقبتي، أطلق يدي والرجلين. فقد شاقني الآن مجد خيول العرب.
– هل حاولت محاورة صاحبك العربجيّ بائع الكاز؟ فهو، كما رأيته طيّب ومسكين، وصوته بحّ من المناداة صبحاً وظهراً ومساء.
حاوره بهدوء، لعلّ وعسى يستجيب إلى رغبتك.
– كلّمته مرّات ومرّات فلم يستجب.
وبعدما عقدا تلك الصفقة اللعينة.
– أيّ صفقة تعني؟
– الصفقة التي ابتاعني فيها، قل استعبدني، حاولت أن أفهمه بأنّ الخيل معقود بنواصيها الخير.
– ما ردّه؟
– الخيل معقود بنواصيها الكاز.
كرّرت محاولتي فقلت له: الخيل ظهورها عزّ وبطونها كنز، فأجاب:
الخيل ظهورها تشدُّ “طنبر” الكاز، وبطونها للتبن والماء والشعير.
سألته مرّة: ما المجد؟ وما العزّ؟ فأجابني ساخراً: النقود مطلبي، فلا العزّ يشبع بطناً، ولا العزّ يوفّر الذهب، وأودّ إخبارك ما فعله ذلك الجاحد الذي باعني إلى هذا العربجي.
– تفضّل.
– عندما امسك العربجي الرسن أشاح بوجهه عني، كانّه لا يعرفني، وراح يمسّد ظهر حصان فتّيّ. تصوّر هذا التخلي عن مخلوقات الله في أوقات ضعفها!
– بعد محاولاتك الفاشلة تلك ما الذي أصابك أخبرني؟
– بعدها، عندما لم أجده أهلاً للحوار، ولم ألقَ من أشكو إليه سوء حالي ومآلي، وجّهت وجهي للذي قال:
والعادياتِ ضبحا فالمغيراتِ صبحا، ودعوت:
يا ربّ أرحني.
لمّا انتهيت دعائي ، كانت دموعي مدرارة تسيل على خدّيّ المكدونتين هذين.
بربّك قل: هل هذا العربجي الذي لا يعرف سوى الكاز وسيلة للعيش يستحقّ المحاورة والنقاش؟
وهل يمكن لمخلوق أن يشكو لمن لا يفهم لغته؟
وبعد انقطاع لغة التواصل بينكما ما الذي تمنيّته؟
– الموت، نعم مرّات ومرّات عديدة دعوت الله أن يميتني لأرتاح من هذا العيش الذليل صدّقني.
اسمع ما يجول في ذهني الآن.
– تفضّل يا عزيزي
– يا حادي العيس سلّم لي على أمّي…واحكيلها باللي جرى واشكيلها همّي
وحياة عمري المضى وحياة هالأمّه …مشتاق للموت لارتاح من كبر همّي.
” أي حزن كبير يعتمل في روح هذا المخلوق الحسّاس؟” همست، وتوجهّت إليه محاولاً بعث فرجة من الأمل في كيانه فسألته:
– في ذهني سؤال يحيّرني.
– تفضّل يا عزيزي.
– لمَ ارتضيت مكالمتي، وأنت لم تعرفني، ولم ترني قبلاً؟
– لمستُك مفرداتُ معجمٍ إنسانيّ راقٍ ، نفذت معانيها النورانيّة الشفّافة إلى روحي وأعماقي.
عندما تلفّظ بهذه الكلمات احتضنت رأسه، وقبّلت جبينه العالي، فتهلّل وجهه فرحاً، وأشرق ابتسامات متواصلة، خاطبته بعدها: أصيل وابن أصائل، أبشر، لقد ارتضيت بمحادثته بشأن صفقة جديدة أهدف منها إلى تحريرك من هذا السجن، وأرجو الرحمن الرحيم أن يوفّقني في مسعاي النبيل هذا (قال عادل ومسحةُ الرضا تعلو محيّاه).
– أنت تعرف أصلي وفصلي، وذلك البشري الذي تخلّى عنّي بعد كبر أصابني كان يسميني عزّ العرب، وهذا العربجي والناس الذين يمرّون بي يقولون: حصان الكاز، نعم، أنا حصان الكاز، أرجوك أن تحصر كلامك معه بالمادة، فهذا العربجيّ شأنه شان الغالبية العظمى من أبناء هذه الأرض الذين باتوا لا يفقهون سوى لغة المادّة، ولا يرتضون غيرها سبيلاً للعيش. (قال ذلك وأضاف)
– انظر ، ها هو صاحبك قد عاد .
ابتعدت عن الحصان قليلاً كي لا تؤلمه المحاورة بيني وبين ذاك العربجي صاحب الذهنيّة التي لا ترى سوى الكاز وسيلة للعيش ، وكان الحصان يرفع رأسه إلى الله ويتمتم بصوت مهموس لا يسمعه البشر إلّا قليلا.
بينما رحت اردد بيتاً من الشعر :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلّمي
ثمّ عقّبت :
سامحك الله يا ابن شدّاد ، كيف تقول ذلك عن حصان خبرته في المعارك كثيراً ، ولم تعلم أنّه حسَّاس وشفّاف ومحاور من الطراز الاوّل . سامحك الله وسامح البشر الذين لا يفهمون أسرار الحوار ، ومعنى الكلام في هذا الزمن وفي كلّ الأزمان
قبريخا – جبل عامل
غرفة 19
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم