واسيني الأعرج
كانت هنا
بعد قرابة النصف قرن من الغياب، سألتِني وأنت تبعثين لي صورة من صورك القديمة، لامتحان ذاكرتي: هل تعرف مين هذه الصبية؟
فتحت النافدة. تنفست عميقا هواء الصباح المشبع برطوبة مطر يأتي منذ سنوات في غير وقت
أغمضت عيني لدرجة أن وجدتني أركض في شوارع بيروت بعد سهرة البيكاديلي مع فيروز، في عز الحرب الأهلية. غرقت في صمت اللحظة وقدسيتها
أين رأيتها؟
كان اليوم ممطرا وكانت تحمل مطرية ملونة بألوان سماء بيروت على شرفات الروشة
نعم أتذكرها
صادفتها مرة واحدة عند مدخل المؤسسة العربية للدراسات والنشر التي كان يديرها رجل كبير اغتالته أيادي الغدر: عبد الوهاب كيالي. رأيتها يومها بمحض اقدار الصدفة التي تخطط لكل شيء في غيابنا
تأملت عينيها. فيهما شيء من السحر والطفولة الهاربة، والأنوثة المتخفية. كل شيء يصرخ بداخلها: أين رأيتها يا ترى؟ في الحمراء؟ في مقهى من مقاهي بيروت الكثيرة؟ في البيكاديلي ليلة سهرة فيروز؟ لا أعرف؟ لكني متأكد من أني أعرفها جيدا. لا شيء فيها غريب عني. عندما التفت، كانت قد انسحبت. لا يمكن؟ صرخت في اعماقي. ركضت وراءها. لا يمكن أن تنطفيء بهذه السرعة. حتى النجمة الهاربة تترك وراءها سيلا من الرماد وشلالات من النور. كل السنوات التي تلتْ مثقلة بالغيم الجاف وحوادث الموت والحياة، قضيتها في الركض وراءها. لابد أن تكون سعيدة، المعشوقة تشتهي ذلك. بعد أربعين سنة، وبمحض صدفة الأقدار، عثرت عليها. كان العمر قد سرق منها ضوءا كثيرا، ومنحها صمتا وخوفا وذاكرة شاعر. كانت متخفية في زاوية باردة من زوايا فيسبوك التي تشبه مقاهي باريس الافتراضية؟ كانت كعادتها تشرب قهوتها المسائية بصمت وسكينة. هل هي نفس المرأة التي صادفتها عند مدخل دار النشر قبل نصف قرن؟ الاسم نفسه. بدأت أستانس للملامح الأولى التي بدت لي غريبة. علي أن أملك شجاعة استثنائية لأحكي لها حكايتها التي لا تعرفها. سأبدأ بالجملة التالية: هل تذكرين ذلك الشاب العشريني الذي وقفت تتأملين شعره الملفلف المحروق بشموس الأسفار حتى اصفرن الذي ينسدل في التلواءاته الأفعوانية كلما مسه ماء أو مطر؟ تخيّل ما كان يدور برأسك. ابتسم لك كأنه يعرفك، وابتسمتِ له. في اللحظة التي أغمض فيها عينيه يتذكر، أين رآك، كنت قد غبتِ داخل مدينة تضجّ بالحنين، وفوضى الحروب، والسهرات، والحياة والموت. تلك كانت بيروت
كان المطر يسقط في ذلك الصباح عندما اتكأ على الحائط وظل يتأمل المارة تحت المطريات الملونة، ومن حين لآخر يمد كفه فتعود ممتلئة ممتلة بماء المطر
كانت هنا قبل ثوان ولم تعد
كان يومها مطر بيروت ملونا بالسحر والخوف