اعداد / يحيي رياض
مدير مكتبة القاهرة الكبرى
دارينكا كوزينتس كاتبة سلوفينية معاصرة، وتعد من كتاب سلوفينيا المشهورين، لها العديد من الاعمال الادبية التي نشرت ورقيا، كما لها العديد من الاعمال التي نشرت اللكترونيا، وقد حصدت العديد من الجوائز على اعمالها الادبية، مما دعي وزارة الثقافة في سلوفينيا إلى تبني اعمالها بالنشر.
جمعت دارينكا في كتابها اليكسادرينك قصص ثمانية من سيدات وفتيات سلوفينيا، وهي قصص حقيقية لنسوة اضطرتهن ظروف الحرب العالمية الاولي والثانية في اوروبا، وفي سلوفينيا بالتحديد، إلى الهجرة إلى مصر للعمل لدي العائلات المصرية الكبيرة، وفي قصور الامراء ورجال الاعمال، هربا من الحرب والفقر وبهدف مساعدة أسرهم في المعيشة بارسال ما يكسبونة من اموال نتيجة عملهن.
وقد اطلق على هؤلاء النسوة في سلوفينية اسم ” السكندريات ” او ” اليكسادرينك ” باللغة السلوفينية نظرا لان اول ارض يصلوا اليها هي الاسكندرية، ولكنهم كانوا يعملون في كل ربوع مصر، واطلق عليهم في مصر اسم ” الجوريسيات ” بسبب ان نسبة كبير من السلوفينيين الموجودين في مصر كانوا من مقاطعة ” جوريتسا ” السلوفينية.
ترصد الكاتبة في اسلوب ادبي مميز طبيعة حياة هؤلاء النسوة قبل وبعد وصولهم مصر، والعلاقات الاجتماعية المتشابكة وحياتهن الاجتماعية الخاصة في سلوفينيا ومصر، وقد استطاع الاستاذ طارق حجازي الذي تصدي لترجمة هذا العمل من بث جمالا لغويا في صياغة العمل باللغة العربية، اشعرنا بمصريتة واصوله السلوفينية، رغم ان الكتاب ترجمة من اللغة الانجليزية إلى العربية، كما حرص على ان يوضح المعاني الغريبة او التي تحتاج إلى تعريف في حواشي زادت من جمال العمل واهميته.

هذا العمل الذي صدر في حوالي 150 صفحة من القطع المتوسط، وهو نقلة ايجابية كبيرة في العلاقات المصرية السلوفينية، وياتي ضمن مبادرة ” العودة للجذور ” التي اطلقتها الدولة المصرية، ودراسة تأريخية للاحوال المجتمعية لفترة هامة من تاريخ الشعب المصري والسلوفيني.
ينتمي المُؤلف إلى الرواية التاريخية والكتاب التاريخي، فهو كرواية تاريخية HISTORICAL NOVEL تتوافر به عناصر الرواية التاريخية التي من سيماتها وجود الشخصيات الحقيقية وتجري احداثها في سياق تاريخي محدد، فشخصيات العمل هي شخصيات حقيقية، عاشت في فترة زمانية معينة، جمعت المؤلفة حكايتهن الحقيقية واصبغت عليها اسلوبها الادبي، اما من جهة الكتاب التاريخي فهو يتناول فترة هامة من التاريخ الاجتماعي والسياسي في كل من سلوفينيا ومصر، وهي فترة ما قبل الحرب العالمية الاولي مرورا بالحرب العالمية الثانية وحتي منتصف القرن العشرين.
برعت الكاتبة في تصوير مراحل الطفولة لهولاء النسوة، وحتي احاسيس الاطفال الذين عٌهد لهؤلاء النسوة رعايتهم، ويرجع ذلك بالتاكيد إلى خبرة الكاتبة في الكتابة للاطفال خاصة وان لها باع كبير في الكتابة للاطفال.
كما ان الكاتبة لا تنظر إلى ابطال اعمالها الثمانية ككائنات ونماذج ورقية، ولكن تنظر اليهن كروح وامل وهدف يسعون إلى تحقيقة، فهي لم تعتني كثيرا بالمظهر الخارجي لهؤلاء النسوة، الا في النماذج التي عادت من مصر إلى سلوفينيا، ونظرة المجتمع السلوفيني لهم، اما النسوة محور الاحداث فهي تعرفنا عليهم من خلال احلامهم والبيئة التي عاشوا فيها، والتي برعت في وصفها بجدارة.
افتقد العمل إلى الصور التي لم توجد قصة او حكاية لهؤلاء النسوة الا وقد تحدث ابطالها عن وجود صور لهم او للشخصيات التي اقاموا لديهم في مصر، وهو ما كان سيثري العمل ويزيد من شغف قراءته، لما للصورة من تمثيل يساعد على تصور الحدث والتفاعل معه.
القصة الاولي من القصص الثمانية هي قصة ” ماريا ” الفتاة ذات السبعة عشر عاما، والتي لم تتعرف على الحياة بعد، والتي تخدم اباها واختها الصغيرة، فهي فتاة يراوضها حب المراهقة من فتي لا يرضي عنه والدها، الذي وجدها فرصة للتخلص من هذا الفتي بسفر ابنته إلى مصر ارض الاحلام لكل فتاة وسيدة ورجل في قريتهم.
استطاعت المؤلفة على لسان ” مارتا ” ان تطلعنا على ظروف سلوفينيا القاسية تحت الحكم الايطالي الفاشي في تلك الفترة، كما استطاعت ان تصور لنا قسوة الغربة من خلال ” ماريا ” وسيدة اخري قابلتها على المركب المتجهة إلى الاسكندرية، وكوابيس الاحلام التي لا تنم الا عن الاحساس بالخوف من المجهول الذي ينتظرهما.
استلمت ” ماريا ” العمل عند سيداتان من اقاربها في حي جاردن سيتي بالقاهرة، بداية لتحقيق حلم الثروة في ارض الاحلام، الا اننا لا نجد من رحيق القاهرة الا بعض الاثار المصرية القديمة تضعها العمتان في دواليب زجاجية محكمة الغلق ولا احد معه المفتاح الا هما، تلك الاثار التي يأخذها الطبيب البيطري ابن موطنها والذي يصبح زوجها المستقبلي، يأخذها من البدو مقابل علاج حيوانتهم.
وتبدأ قصة ” مارتا ” من وجودها في الاسكندرية كمربية لاطفال السيد ” موروسو ” المصرفي الناجح وزوجتة سيدة المجتمع والتي تكتفي في علاقتها باولادها بتحيتهم كل مساء وسماع تقرير من مارتا عنهم في الصباح، وهو يدل على انشغال هذه السيدة بعلاقتها الاجتماعية وهو ما يظهر من كمية الدعوات الموضوعة امامها، والذي يضعنا هذا بدوه في تصور مدي حيوية المجتمع الاسكندراني وزخم علاقاته، والثقة التي توليها لـ ” مارتا ” في رعاية اولادها.
تروي ” مارتا ” من خلال الرسائل، الكثير من الحياة الاجتماعية للطبقة الراقية في الاسكندرية، وحياة الاتيكيت المتبعة في قصورها، وعن الباعة الجائلين، وعن سيدات قريتها اللاتي جهزن انفسهن من العمل في هذه المدينة، ومنهم ام حبيبها ” ايزيدور ” نفسها، وهو ما نسميه في مصر ” الشوار” او ” مستلزمات الفتاة عند الزواج “، كما تاخذنا ” مارتا ” إلى الحياة في سلوفينيا ومعانات الشعب مع اصحاب القمصان السود، وتسير بنا الرسائل وقصة ” مارتا ” ان العمل في مصر لم يكن سهلا، فقصة ” ماريتشكا ” التي تعرضت للتحرش من صاحب المنزل الذي كانت تعمل به، فالامر لم يكن يخلوا من المضايقات.
ان قصة ” مارتا ” صورت لنا بكلمات رائعة الطبيعة الساحرة في قريتها، وايضا كم الشجن والحنين والالم الذي عانته من الوحده وفقد الحبيب، لذا يمكن اعتبرها صورة مجسمة لحياة فتاة جاءت لتحقيق الحلم في الثراء والزواج من الحبيب ولكن القدر كان له رأي اخر.
اما رحلة البحث عن الاجداد، واقتفاء اثارهم فهي قصة ” فينسا “، فهي تبحث عن سيدتان من الاسرة كانا لهم الفضل في مساعدة العائلة وقت الفاشية الايطالية، وقد اطلت الكاتبة من خلال هذه الرحلة على مصر الحديثة، وما الت اليه القاهرة في الوقت الحالي، من اهمال لما تركة القدماء من عمران حديث، رغم احتفاظ العمائر القديمة ببعض من جمالها الا ان مظاهر الزمن والاهمال قد طالها، وتحول مقابر السيدتان إلى مبني سكنية، رغم ان المعروف ان تلك المقابر تعتبر قطع فنية معمارية، لقد ارادت ” فينسا ” ان تقول لنا اذا لم تكونوا تستطيعون المحافظة على اثار منذ بضع عشرات من السنين، كيف تحافظون عن اثار منذ الاف السنين.
رغم فشل ” فينسا ” تحقيق الهدف من الرحلة الا انها اخذتنا إلى مجتمع القاهرة الحديث، ومشكلة اطفال الشوارع، وبيع الابناء بعد تنازل اباءهم عنهم، لقد عرت برحلتها القاهرة القاسية على ابناءها تلك التي كانت يوما ملجأ لشعوب العالم.
اما قصة ” انا ” فهي تبدأ من الوقت الحالي بعثور فتاة على كوب ماء جميل تعرض للاهمال حتي اصبح اناء يشرب منه جرو، ثما تعود بنا الكاتبة بفلاش باك إلى ” انا ” التي عرض عليها السفر إلى القاهرة للعمل عند العمه ” لويزا “، وعاشت ” انا ” في القاهرة حياة مرفهه وكانت محط رعاية العمه ” لويزا ” والتي تعطيها المال لشراء التذكارات، ولنكتشف ان من هذا التذكارات التي اشترتها هو كوب الماء، ثم تسير بنا القصة إلى موت العمة واتهام الاسرة لـ ” انا ” بالاستيلاء على ثروة العمة ” لويزا “، وهنا نفهم لماذا تحول الكوب من تذكار يذكر الاسرة دائما بابنتهم ” انا ” إلى الاهمال ووضعة لسقية الجرو الصغير، لتتركنا القصة في محاولة الفهم والاستنتاج للعلاقة التي اصبحت بين ” انا” واسرتها للتتركنا الكاتبة لنهاية مفتوحة.
ثم تذهب بنا الكاتبة إلى قصة ” برناردينا ” الفتاة المراهقة ذات السبعة عشر عاما والتي لا تعرف من الحياة الا التجول بين الطبيعة الجميلة في قريتها وعلاقة حب بدأت في الظهور على استحياء، وحكايات من ذهبوا إلى الاسكندرية من نساء القرية، واجمل ما في قصة ” برناردينا ” ما قاله حبيبها معلقا على مجموعة من الصور ” كل الصور تفتقد إلى الام ” كناية عن ان كل نساء القرية قد ذهبوا الى مصر.
اما عن زورا فهي لم تعشق الا الشاب فالانتين، والتجول في الطبيعة التي تحيط منزلها، وحكايات النساء اللاتي ذهبن إلى مصر، ورغم معارضة الاب والاخ في سفرها إلى مصر الا ان الام كانت تري في سفرها فرصة لتجهيز اشياء عرسها، حضرت زورا إلى مصر وعملت في بيت عائلة انجليزية، وتعرضت للتحرش بها، ولم يستمر وجودها في مصر الا ثلاثة اشهر، وعادت إلى وطنها بعد ان عشقت القهوة.
اما ايرين فهي اسكندرانية المولد، كانت امها أحدي العاملات لدي الاسرة الملكة، ويبدوا من قصتها أن علاقتها كانت جيدة بتلك الاسرة، حتي ان الملك فاروق اعطها هدية للمولودة، ولكن ما ذكرته المؤلفة ان الملك فاروق اراد ان يشتري الصغيرة المولودة هذه قصة تحتاج إلى مراجعة واثبات، ان قصة ايرين هي افضل القصص التي تناولت الحياة في مصر من وجهة نظر سلوفنية.
ان قصة يلكا هي قصة التحول من الذهاب إلى مصر في بداية القرن العشرين للعمل، إلى الذهاب إلى امريكا لنفس السبب في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، فهي قصة سيطرة راس المال والخروج المبكر للمعاش، والحنين إلى الماضي من خلال خطابات عمتها التي عاشت في مصر في بداية القرن العشرين تلك الخطابات التي طالها لون صفار الزمن، فمثلما جاءت العمة إلى مصر للعمل بسبب الظروف الاقنصادية في تلك الفترة، تتاح لليلكا فرصة السفر لامريكا للعمل عند عائلة سلوفينية ، انها اجيال تسلم اجيال.
اما قصة داريا، هي قصة العودة إلى الاصول السلوفنية، إلى احياء اللغة السلوفنية، من خلال طفلة صغيرة لاسرة ايطالية تعيش في سلوفنية، فهي قصة امراة سلوفنية تم احالتها إلى المعاش، واضطراتها الظروف المعيشية ومرض الام المفاجئ إلى العمل لدي اسرة لموجهة ظروف سلوفنيا في القرن الجديد، انها قصة تجسد رحلة العطاء والوفاء واستمرار المعاناه.

يحيي رياض