يخيّل لي أنّ المؤلّف المبدع حسن مدن يكتب بعقله وقلبه، وهو يخوض بنا عباب رحلته الطويلة من قارّة إلى أخرى.
المعرّي السوريّ كتب رحلته الخيالية عن الجحيم والنعيم في رسالة الغفران، وعلى خطاه سار الإيطاليّ دانتي الذي كتب أيضًا عن الجحيم والمطهر والفردوس، فكانت الكوميديا الإلهيّة، وابن بطّوطة المغربيّ البربريّ الذي كتب رحلته الواقعية، وكذلك ابن جبير الأندلسيّ وأحمد بن ماجد الجلفاريّ.
حسن مدن لا يختلف عنهم في رحلته الطويلة عابرًا وماخرًا عباب الكتابة والإبداع إذ نتعرّف من خلاله إلى مناطق شاسعة لم نكن نعرفها قبل قراءة الكتاب، كما أنّها تعمّق معرفتنا بمناطق أخرى، وعرّفنا إلى شخصيات إبداعية أدبية أجنبية وعربية دون أن نشعر بأدنى غربة وغرابة، بل العكس تمامًا نشعر بألفة إنسانية غريبة مع أدباء ومفكّرين من أدنى الأرض إلى أقصاها، ويتحدّث عن بعض من رآهم، أو رافقهم، أو قرأ لهم، فبينه وبينهم صداقة حميمة، هي صداقة العقل والروح.
ثمّة أدباء كنّا نمرّ بهم مرور الكرام دون أن نتوغّل، أو نتغلغل في مدى العمق الإنساني لديهم حتى نشعر أنّ حسن مدن مثلًا عاش مع تشيخوف وشخصياته القصصية المدهشة، وعرفه وعرفها عن كثب، وهكذا مع آخرين عربًا وأجانب.
إنّ الأسفار في الطبيعة تعلّم الإنسان وتخرجه من حالة السكون والملل، كذلك هنا تبدو الأسفار شائقة ودليلنا إلى محطاتها حسن مدن الخبير بكل محطة وما فيها من كتاب يعرفهم حق المعرفة ويعرفونه فإذا بنا نطيل الوقوف لنسمع ونستمتع بكل كاتب وسيرته وأسلوبه في القراءة والكتابة والحياة
قال توفيق الحكيم :” الإبداع صعب للفنان وسهل للناس”.
لنا أن نتخيّل الجهد الجبّار الذي بذله حسن مدن وهو ينتقل من كاتب إلى آخر، عارفا بدقّة عوالم كلّ واحد وأسراره وأبعاده النفسية والعقلية والإبداعية.
كم من الوقت صرفه كاتبنا في قراءة هؤلاء المبدعين، وكم من الوقت في الكتابة عنهم ثمّ نأتي نحن، ونقطف ما نشاء وعلى الحاضر تمامًا كالفلّاح الذي يحرث الأرض ويبذرها ويسقيها ويرعاها حتى موسم الحصاد، فإذا الحصاد عصير العقول التي حفرت أنفاقًا في جبال الحياة، ومهّدت السبيل إلى الجمال والجلال.
إنّ الأسلوب الأدبيّ هو هويّة يتميز بها كلّ كاتب حيث يقرّب الأفكار، ويجعلها سائغة وشهيّة، بعيدًا عن الأفكار والآراء المتعصّبة والحقائق المطلقة، فالكاتب الجيد يكتب ما هو نابض بالاخضرار والمنطق والموضوعية.
يقول توفيق الحكيم:” إنّ الأديب الحقّ هو الذي يجعلك تدرك عمقًا جديدًا، كلّما أعدت قراءة كتابه”.
قال الجاحظ: “خير الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره”.
وقد كان الكاتب وفيًّا لنصيحة الجاحظ التي تصلح لكلّ مكان وزمان، فكان كتابه الضخم بجوهره قبل مظهره.
وبمناسبة الجاحظ ما أصدق ما قاله فيه ابن العميد:
” إنَّ كتب الجاحظ تعلّم العقل أولًا، والأدب ثانيًا”.
أرى أنّ كتب حسن مدن تعلّمنا كلّ ذلك، إضافة إلى الروح الإنسانية النبيلة ،كيف لا وهو يسرد لنا حكايات عن النبلاء الذين يكاد عصرنا يخلو منهم .
منذ أكثر من ثلاثين عامًا أقرا له منذ الصحافة الورقية( جريدة الخليج- كلّ الأسرة- وأماكن أخرى )، وأرى في أسلوبه شاعرية أجمل بكثير ممّا يُكتب اليوم من شعر منظوم ومنثور وما لفَّ لفَّهما.
خمس وثمانون محطّة في أماكن مختلفة، وفي كلّ محطّة جلسة سمر يملؤها حسن مدن بأحاديثه الشائقة التي تجذبنا إليها كما تجذب الأزهار أسراب النحل،أو كما:
ترقصُ الأضواءُ كالأقمارِ في نهَرْ..على ذمَّة الجيكوري النحيف السيَّاب.