مساءَ الآمالِ الَّتي لم تُقتلْ بعد
مساء النَّجاة في زمن الغرق، الغرق السّياسي والغرق الإنسانيّ، والغرق الأخلاقي
مساء كلّ الذين رفضوا أن يزوروا هذه الحياةَ سدىً، وأن يغادروها بلا أثر
مساء مَن حجزوا أمكنتَهم في الخلود
من أكثر الجمل الّتي أسمعها كلَّ يوم: “شو كتران الموت” أكاد أصرخ في قائليها: “صحِّحوا معلوماتِكم، مش الموت يلِّي كِتِر، الحياة، هي اللّي قلِّت
حين طُلِب منّي أن أدير هذه الأمسية، كان جوابي: لا أجيد، وعندما عرفتُ أنَّ الموضوعَ هو الموت، عدَّلتُ الإجابةَ فورًا لتصبح: كم أتقِنُ الحديثَ عنه، بل كم لا أتقن موضوعًا آخر
كيف لا؟ ونحنُ نتفرّج على رحيل الرِّفاق واحدًا تلو آخر، ونحن نتدرَّب كلّ يوم على المزيد من الغياب، وكم صرنا متخصِّصين بالحزن، وخبراءَ بالوجع والوداع وبالرِّثاء، وكم اعتدنا التّلويح بيمنانا لمَن يمضون، هكذا وببطء. لشعراءَ لم يجدوا طريقةً أخرى ليمازحوا القصيدة ويربكوا اللّغة. لكن مهلًا يا لها من مزحةٍ ثقيلة، هل حقًّا قلتُم كلَّ شيء، وجميعنا يعرف كم أنّ الكلماتِ التي لم تُقل ولم تُكتب، تؤلم، حتّى مَن لم يعد على قيد الحياة
لطالما استغربتُ طريقة تفكير الموت ورغبت في الدّخول إلى رأسه لمعرفة ما قصده؟ لطالما وقفت حائرةً أمام خيالِه الخصب، والآن أراه يصبح ذوّاقًا، ويختار بدقّةٍ عالية باقةً من القامات والشّعراء، كأنّه طامعٌ بضوئهم بمجازهم، بأن يستمع إلى الكثير من الشعر، وحده ودفعةً واحدة
لكن كيف يموت شاعرٌ قدرُه أن يولد فمُه قبلَه؟ وقدره أن يبقى فمُه بعدَه؟ كيف يموت شاعرٌ فمه يكبره بكثير؟
نعم هو قد يعرف الموتَ مرارًا قبل رحيله، كلّما مُنِع اللغةَ وحُرم منها، في كلّ مرّةٍ تخاصمه الكلمات وتركض للاختباء في أماكن بعيدة وعالية، عندما تشاكسه الورقةُ ببياضٍ مبالغٍ فيه. فتروه يشعر بالاختناق، بأنَّه ينقص، يتلاشى، يبدو قبيحًا ومنبوذًا، يكاد يموت، يموت من دونها… الأدباء الأحياء يُقتلون بالصّمت ويكفَّنون بالورق الأبيض. الجملة الأخيرة التي قالها همنغواي باكيًا قبل أن يميتَ نفسه: لم تعدِ الكلمات تأتي
أليس النسيان هو الموت الآخر الّذي يهدِّد الشّاعر بعد رحيله؟ وهل نحن نعرفهم جميعهم، المبدعين الّذين مرّوا على هذه الأرض؟ هل تظنّون أنّ التاريخ دائمًا على حق؟ أنّه يعترف بكلّ ما حدث؟ التّاريخ يا أصدقائي منافقٌ كبير! ألم يهمِل تسلا، ويمجّد سارق أفكاره ايديسون، ألم يكد ينتصر لرودان الذي وقَّع باسمه منحوتاتِ تلميذةٍ له! وكذلك في الشعر فمَن منّا يعرف مثلًا أنّ لمي منسى وفينوس خوري الشهيرتين شقيقًا شاعرًا مات منتحرًا، تقول فينوس إنّها كتبت بقلمه وعلى دفتره، إنها نشرت فقط لأن أحدًا لم يرض بنشر قصائد أخيها الذي لا أحد يعرفه، ألا يموت مبدعٌ حين لا يعرفُه أحد ولا يتحدّث عنه أحد وحين ينساه الجميع؟
لكنّ شاعرًا كدرويش لم يُنسَ كأنّه لم يكن وجميعنا يعرف أنّ رقم بطاقتِه 50 ألف
وأنّ رينيه عاد إلى الحياة يوم أقسم هيغو: سأكون شاتوبريان أو لا شيء
ألا يحيا الشعراء والمبدعون الراحلون عندما ينصفهم الزّمن ويكنِسُ الغبارَ عن أسمائهم، عندما لا يُغمض الدارسون والباحثون والنقادُ والقرّاء أعينهم مرّة،
أتخيّل فرحةَ بوشكين عندما عثرت إحدى الشاعرات على قصيدةٍ له بعد قتله بسنوات! كم كان سيموتُ أكثر لو أنّها ظلَّت مدفونة
التقيتُ به مرّةً واحدة، ولدى الشعراء، أظنّ ذلك كافيًا، كان هادئًا، متبسّمًا، رأيته يعانق الورق وينحني للشِّعر ويقوله بخشوع، مثل صلاة، برقَّة مثل موسيقا. هو يقول إنّ كلَّ قصيدةٍ له، اعترافٌ بجريمة، وما أجمل الجرائمِ التي يرتكبها الشُّعراء، إلّا واحدة: أن يلفظوا الأنفاس الأخيرة للقصيدة، أن يكون لهم نصفُ حياة، ورحيلٌ كامل
باسكال عسّاف، وقد سبقتَني إلى هذا المنبر، نحن هنا اليوم، لنحيّيك، كلٌّ على طريقته، لأنّ شاعرًا مثلَك لا يرحل، إلّا ليمنح قصائده، المزيدَ من الحياة
هل تعرفون ماذا يحصل لأدبائنا وشعرائنا بعد رحيلهم؟ هم يقتلون طبعًا
هل تعرفون أنّ كاسترو كان أوّل من قرأ مئة عام من العزلة قبل نشرها؛
أنّ كفاح هتلر مليء بأفكارِ نيتشه ؛
أن ساركوزي يحفظ مقاطع كاملة من روايات سيلين؛
وأنّ التلفزيون الفرنسي قطع بثّه ذات يوم ليخرج الرئيس بومبيدو قائلا بحزنٍ كبير : مات بابلو (بيكاسو)
وأّن ستالين، حتّى ستالين، الّذي قتل أربعة أضعاف ما قتله هتلر وأكثرهم من المثقّفين، أسمى الكتّاب والشعراء “مهندسي النّفسِ البشرية”، وكان واحدًا من اثنين حملا نعش ماكسيم غوركي؛
هل تعلمون أنّ كوكبًا في الفضاء أُطلق عليه اسم آنّا أخماتوفا؛
أنّ ديغول كتب في مذكّراته: إلى يميني كان وسيظلّ أندريه مالرو؛
وأن شيراك نقل جثمانَه أي مالرو بعد 20 عامًا من وفاته إلى البانتيون؛
أنّ في العام الماضي (2021) عمل ماكرون على نقل جثماني رامبو وفرلين إلى هناك، لولا أنّ سمعة الشاعرين لم تشفع لهما؛
هل تعلمون أنّ على واجهة البونتيون حيث يُدفن الكتّابُ والعلماء والفنانون، عبارة: إلى العظماء من بلدٍ ممتنّ؛
هل تعلمون أنّ في بلادٍ أخرى يتنافس القادة والرّؤساء ويتسابقون لإرضاء الشعراء والكتّاب، أنّهم يتباهون بتكريمهم وذكر أسمائهم حتّى
أمّا هنا، فلا يُخفى على أحد أنّ الموظّفين لدينا، أي من سلّمناهم شؤوننا وقرارنا، هم لا يقرأون لنا، ولا يهنّئوننا، ولا ينفوننا، ولا يسجنوننا من أجل قصيدة، ولا يقتلوننا بسبب فكرة، لأنّهم بكلّ بساطة، لهم في الأرقام، وليس في الكلمات