محمد السيد إسماعيل
يدرك الشاعر المصري كمال عبد الحميد – جيداً- أن الشعر ” صعب وطويل سلمه” وأنه ” لمح تكفي إشارته ” ، وبناء على هذه العقيدة الشعرية ابتعد عن الاستطرادات المجانية والثرثرة وهدر الكلام ، وقد تجلى ذلك على مستوى السطر الشعري الذي يقوم على الإيجاز والاقتصاد ، وعلى مستوى عدد الدواوين التي لم تتجاوز أربعة دواوين هي على التوالي : ” تمام الجحيم ” و” الوسيلة المتاحة للبهجة ” و” عاطفة قاسية تلوح بالعصا” ثم هذا الديوان الجديد ” ندم المشيئة ” الذي يستعرض فيه بعضاً من آلامه الأخيرة واعتلال جسده فيما يعرف ب” شعرية المرض ” على حد تسمية د. جابر عصفور عند حديثه عن ديوان ” مدائح جلطة المخ” للشاعر حلمي سالم . والحقيقة أن شعرية ” المرض” قديمة منذ تحدث المتنبي عن ” الحمى ” التي يصفها بقوله ” وزائرتي كأن بها حياء / فليس تزور إلا في الظلام ” وفي العصر الحديث يعد تصوير السياب لابتلاءاته أشهر من أن يشار إليه حين يقول ” لك الحمد مهما استطال البلاء / ومهما استبد الألم / لك الحمد إن الرزايا عطاء / وإن المصيبات بعض الكرم ” ثم تأتي تجربة حلمي سالم المشار إليها وتجربة محمود قرني في ديوانه الأحدث ” مسامرات في الحياة الثانية ” لكن ما يميز ديوان كمال عبد الحميد هو أنه جعل من الجسد المعتل مدخلاً للحديث عن حياته عامة منذ ذكريات طفولته ، وفقده للأب ثم الأم التي اتخذت مساحة كبيرة من الديوان الذي لم يخضع للانسيال العاطفي بل قام على درجة واضحة من البناء والإحكام حيث قسمه الشاعر إلى أربعة أقسام هي : أمشي مأهولاً بعويل – ليس للألم بيت – الشجرة الواقفة بي – الحزن هبة الآلهة وقد جاء القسم الأخير هذا في صورة نثرية سردية استعاد فيه الشاعر ذكرياته وبعض قراءاته وقصة حبه الأول وطبيعة الرجل الصعيدي الذي يرى أن ” الرجال لا يبكون ” فالبكاء ضعف لا يليق إلا بالنساء وإن كان في أعماقه يفيض رقة وعذوبة.وسردية هذا القسم ليست غريبة على الشاعر الذي أصدر من قبل مجموعة من المقالات السردية تحت عنوان ” لا يدخل الليل إلا وحيداً”
وبقراءة ” ندم المشيئة ” نستطيع أن نكتشف اعتماده على التجريب وابتعاده عن الطرائق الآمنة المعتادة حيث يضمن الكثير من المقولات الفلسفية والصوفية ونصوص التوابيت المصرية القديمة ، والمزامير وبعض قصائد ” الهايكو” ومن ذلك تصديره القسم الأول بقصيدة ماتسوو باشو ” مريض وقت ترحالي / وأحلامي تتجول طافية / في الحقول الذابلة ” وهو تضمين ليس اعتباطياً بل دالاً على بعض تيمات الديوان الظاهرة المتكررة مثل تيمة ” المرض” و” الترحال” بين قارتين : أفريقيا حيث جنوب مصر الذي يشكل انتماءه الأول ، وآسيا حيث الإمارات التي يعمل فيها منذ سنوات ، وتصدير الأقسام الأربعة بقصائد قصيرة ومقولات مختلفة يعد إحدى استراتيجيات الديوان الجمالية ، ومن الممكن اعتبارها نصاً واحداً يمثل حركة الذات من مكان إلى مكان ومن حالة إلى أخرى ، ففي بداية القسم الثاني يستعير من ” المزامير” هذه العبارة ” لكلماتي أصغ يا رب .تأمل صراخي” وهي مقولة معبرة عن ذاته التي لا تجد لها ملاذاً إلا ” الله ” وسط ذروة تدمير الداء لخلاياه فيما يشبه الموت البطيء . وفي القسم الثالث تتكرر الاستعارة من المزامير حين يضمن : ” تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر” لكن من هو هذا الآخر أو هؤلاء الآخرون الذين يسرع الشاعر الخطا وراءهم ، إنهم ” الأم والجد والأب والأخت “أو ” الموتى الطيبون ” ويظهر ذلك حين نقرأ قوله ” تجيئين بجدي وأبي وأختي / بغضبة الموتى الطيبين / هؤلاء الذين خذلت صلواتهم قبل الجنة بقليل ” وفي القسم السردي الأخير الذي يبدو كما لو كان تعليقاً على الأقسام الثلاثة السابقة يستعير – في التصدير- رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس التي يقول فيها :” لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة ، لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ” فالشاعر لم يكتب ” شعرية المرض ” لكي يصدر إلينا حزنه بل لكي يهدي المحبة وذلك التواصل الإنساني الحميم
ولأن ” الموت ” هو محور هذا الديوان فإن الشاعر يهديه إلى أمه ” هناك حيث يكتفي الموتى بأرواحهم ” بعد فناء الجسد وعودته إلى التراب ثانية .يقول تحت عنوان ” كان لا يجب أن تموت الأمهات ”
ولأن ” الموت ” هو محور هذا الديوان فإن الشاعر يهديه إلى أمه ” هناك حيث يكتفي الموتى بأرواحهم ” بعد فناء الجسد وعودته إلى التراب ثانية .يقول تحت عنوان ” كان لا يجب أن تموت الأمهات ” :” وحشي ما فوق الأرض / موحش ما تحتها ” ولا تهمنا الآن الإشارة إلى الجناس الناقص بين وحشي وموحش فالفارق الدلالي بينهما واضح ، فما فوق الأرض افتراس ووحشية وما تحتها وحدة موحشة ، غير أن الموت يبدو خروجاً عن كل هذا أو تحليقاً وطيراناً حيث تأخذ ذراعا الميت ” هيئة جناحين يحملانه إلى سحابة جهزت مسبقاً لانتظاره / وسط زغاريد مهللة / يمكن اعتبارها مؤشرات لائقة بواقعية سحرية لرحمة السماء ” وتستدعي الواقعية السحرية ” مائة عام من العزلة ” لماركيز وشخصية ” ريميديوس ” الطائرة تحديداً ، يقول كمال عبد الحميد واصفاً ذلك الطيران :” أليس هذا مبهجاً حد اعتباره أمنية / كأن تقول لك أمك من فرط محبتها : – جعل الله طيرانك قبل طيراني / ثم ألم تطر” ريميديوس ” ” إن الشاعر – كما يصف نفسه – ليس كائناً راغباً في الخلود أو في امتلاك قدرات خارقة وينصح أصدقاءه بعدم الحلم بهذه القدرات ” كأن يلمسوا الطاولات / فتطير بهم / وتصبح المقاهي والبارات / خارج الجاذبية ” فهو يدرك أنه – فحسب- ” بشري بائس / آدمي ماتت أمه / فقرر أن يكون رجلاً سباباً / ليلعن أم العالم ” طالما لن تأتيه – وهو هنا يضمن آية قرآنية – بشارة موسى ” فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ” وفي نهاية مقطع تال يستعير نصين من متون الأهرام والتوابيت المصرية القديمة ، مع تأنيث المخاطب الذي كان مذكراً في النصين لكي يناسب حديثه إلى الأم ، فبعد أن يشير إلى انتقالها من عام الوباء إلى أبيه حيث توضع برفق في ترابه يقول – مستعيراً النصين المشار إليهما- ” خذي رأسك …اجمعي عظامك / ناد أطرافك / انثري الغبار عن جسدك ” و” قومي فأنت كبيرة كي تنهضي” وليس غريباً – في هذه الحالة – من صراع الموت والحياة أن يشير إلى ” أنوبيس ” إله الموت والحياة السفلى في الديانة المصرية القديمة حين يقول ” جالساً على عرشه السفلي كان ” أنوبيس ” / يحرك بعينيه مؤشر الألم في غرف الإفاقة / بإذنه راح الخبيث يخرب خلاياي / حافراً بمهارة بين دم ولحم ” واللافت أن عنوان القسم الأول لا يرد إلا في القسم الثاني كما يبدو في قوله ” الآن ولسبب ما ..أعرفه / أمشي مأهولاً بعويل ” مما يدل على أن الفصل بين الأقسام ليس قاطعاً أو نهائياً فهناك – دائماً- تداخل أسلوبي ودلالي واضح .وعلى الرغم من تيمة ” الجسد المعتل ” الذي تتآكل خلاياه بفعل مرض خبيث فإن ” الإيروتيكا” تحضر على سبيل التوهم أو الإنتاج الشعري ، يقول ” دخلت ” برجيل ” بكتاب ” إيروتيكا” /خرجت بعد ساعتين بقصيدة وسرطان عائلي / راجعت ” كليفلاند” في حضور ” ريتسوس” أيضاً / أضافوا بهدوء / انسداد الحالبين / يعقبه – غالباً- فشل كلوي ”
نحن إذن أمام موت محيط بكل شيء ، موت محلق على الرؤوس وداخل الدم لكن الشاعر لا يكف عن استئناف الحياة والتشبث بها
وفي مقطع آخر يوظف الشاعر قصة الخلق في ستة أيام ويرى أن ” ستة أيام تكفي للخلق / كما تكفي للهجر / هي تمام ونقصان كل شىء ” وذلك بعد أن اكتفت حبيبته – في عام السرطان – بالبكاء ستة أيام على الهاتف ثم أخبرته في اليوم السابع ” أرى في المنام إني أهجرك ” والهجر – هنا – مرادف للذبح طبقاً لرؤيا إبراهيم عليه السلام حين رأى – في المنام – أنه يذبح ابنه إسماعيل .كما نلاحظ في بعض السطور تقنية المشاهد المتوازية حين يصور مشهداً بينه وبين الطبيب وآخر بينه وبين حبيبته حين يقول ” يقول الطبيب المجنس : خذ نفساً عميقاً ثم اكتمه / أقول لحبيبتي : كم تعلمنا أن نتنفس سراً”
نحن إذن أمام موت محيط بكل شيء ، موت محلق على الرؤوس وداخل الدم لكن الشاعر لا يكف عن استئناف الحياة والتشبث بها : ” لكننا كناجين محتملين / نشحذ أظافرنا لاستئناف الحياة / ولو بوحشية أقل ” وهكذا يظل الشاعر متأرجحاً بين الحياة والرغبة في الرحيل إلى أمه التي تمثل له الحياة الأبدية ، وفي هذا السياق يستحضر قصة يونس عليه السلام يقول مخاطباً أمه ” خذيني كما أخذك أبي / بطريقته التي لا ترد / أخبريه أنني عائش هنا / في بطن حوت نافق ” .والاطلاع على عالم الموتى يذكرنا برسالة الغفران للمعري التي اطلع فيها على عالم الموتى تماماً كما فعل الشاعر في رؤيته ليد أبيه وعيني أخته وعصا جده في أحد الهذيانات ، وأحياناً يتم هذا بحفر التراب فتخرج ” البندار” قريته في الصعيد حتى يزدحم المكان بالموتى ويواصل الحفر متسائلاً ” كيف امتلأت بقرية كاملة من الموتى ” .ويظل الشاعر متنقلاً من تيمة إلى أخرى بشاعرية فائقة عودنا عليها في دواوينه السابقة
غرفة 19
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه