ماري القصّيفي
حوّاء هي أوّل من حكى حكاية من بني البشر. فحين راحت تصف التفّاحة وتزيّن لآدم متعة قطافها وأكلها كانت تؤلّف حكاية وتصير حكاية. وآدم هو المستمع المتواطئ، الذي عرف أنّ الحكاية حكاية، ومع ذلك انساق خلف الكلمات وهو عارف أنّه خاسر أمانه. بعد ذلك أتت شهرزاد وأعادت بحكاياتها شهريار إلى طمأنينة فردوسه، ومرّة ثانية كان الرجل مستمعًا متواطئًا يعرف أنّ الحكاية وسيلة المرأة لتنقذ نفسها، فماشاها في لعبتها، وتركها تخترع له كلّ يوم قصّة ترويها طيلة الليل، وتصلها بحكاية ثانية وثالثة، إلى أن تحوّل جحيم القصر الملكيّ جنّة وانتقم شهريار لآدم الذي خسر نعيمه بسبب الكلمات المغرية.والنساء، منذ البداية، يحكن الملابس ويحكين القصص. وقد يكون مفيدًا أن ندرس علاقة الروائيين بأمّهاتهم أو جدّاتهم، لعلّنا نكتشف كيف أنّ هؤلاء ورثوا فنّ السرد في دمائهم ورضعوه مع حليبهم وناموا على هدهدة أصوات حوّلت الكلمات مهدًا وغطاء ومخدّة، قبل أن تصير عوالم أخرى لا حدود لها
فكوني، أيّتها المرأة، شهرزاد الحكاية
اخترعي لرجلك عوالم تعيده طفلاً يسمع أصوات الجنيّات، ومراهقًا يحلم بالفتيات، ورجلاً فخورًا بما أنجز، وعجوزًا تحلو معه حكمة الشيخوخة. كوني شيطانته الصغيرة التي تثير رغباته، وكوني ملاكه الذي يحرس نومه، كوني رحمه الذي يخرج منه ويعود إليه.كوني وكوّني. كوني أنتِ ولا تكوني أنتِ، وكوّني له ومعه عوالم لم تكن قبلكما، وحين يقال أمامك: الكذب ملح الرجال، ابتسمي وقولي في نفسك: صحيح، ولكنّ الكذب هو الملح الذي تضيفه المرأة على الرجل، فهو بلا ملح الكذب “والشي اللي حدّ الكذبة” كما يقول الرحبانيّان، لا وجود له. وتذكّري إنّه ليس هو الذي يكذب، بل أنت. لا لأنّه لا يريد أن يكذب، بل لأنّه لا يعرف كيف يفعل ذلك، وخصوصاً في الأمور اليوميّة البسيطة. فالكذب فنّ يتطلّب التفكير في الآخر وتفصيل الكذبة على قياسه ومزاجه وذوقه وشخصيّته، والرجل، إن لم يكن فنّانًا، ليس مؤهّلاً لذلك
انظري حولك وتأكّدي: يتمنّى الرجل أن تكذبي عليه، فإن كنت ابنته فلا تخبريه أنّك فقدت عذريّتك، وإن كنت حبيبته فلا تصارحيه بأنّك مريضة، وإن كنت زوجته فلا تفاجئيه بأنّ أمّه ليست كما يراها. ولا تحاولي تغيير هذا الواقع، فلن تنجحي حيث فشلت نساء الأرض منذ فجر التاريخ، بل حوّلي جهدك لحياكة قصص جديدة كلّ يوم. اخترعي له العالم الافتراضيّ الذي يطلق العنان لأحلامك ورغباته، ولجنونكما معًا. في البداية سيفاجأ ويعارض ويحاول عدم الرضوخ لإغراء التفلّت من قيود العقل والمنطق والمحظور والمحرّم، كما فعل قبله آدم، أو سيسعى، كما شهريار، الى قتل ما فيك من خيال وعاطفة وذكاء تحمله كلّها إلى حيث لم يكن يريد، وتحطّم سدودًا منيعة رفعها طوال حياته أمام موجات محيطك الهادر. ولكنّ مقاومته ستنهار، وسيستسلم لسحر الكلمات ويدخل معك إلى عالمكما السحريّ، ولو كلّفه ذلك أن يخسر أمان الأجوبة، كما فعل آدم، أو أن يحاصره قلق الأسئلة، كما حصل لشهريار
ولكن، إيّاك أن تظنّي للحظة واحدة بأنّه غافل عن اللعبة كلّها، أو بأنّه منساق انسياقًا غيبيًّا ساذجًا إلى حيث تريدين أخذه. فمن شروط الفنّ أن يكون الآخر عارفًا أصول العمليّة في أدقّ تفاصيلها، وأن يدّعي عكس ذلك.
أمّا الرجل الذي لا يعرف الشروط ولا يعي القوانين فلا يستحقّ أن تضيّعي دقيقة من وقتك في تأليف جملة واحدة له. في حين أنّ الآخر، شريكك في الحكاية، يستحقّ أن تكوني حوّاءه التي تخرجه وتخرج معه من جنّة ما هو معروف وأكيد وواضح إلى حيث الشكّ الذي قد يقود إلى اليقين، وشهرزاده التي تنام معه لألف ليلة وليلة من دون أن يكشف أحدكما للآخر أنّه وصل إلى هذا اليقين