ماري القصيّفي
لا تدعوا قصص الحب تموت وإن مات أبطالها! وقصص الحبّ ليست دائمًا ورديّة المسار وآمنة المصير. ففيها، عدا الجانب المشرق منها، الألم والانتظار والمعاناة والمرض والموت، ولكن لولا الحبّ لكان هذا الجانب المعتم من الحياة هو الغالب المسيطر المهيمن. لذلك واجب علينا أن نتناقل قصص الحب والالتزام في زمنٍ كثرت فيه حالات الانفصال والطلاق لأتفه الأسباب، وساد الحقد والغضب والتهرّب من المسؤوليّة
ولكلّ قصّة حبّ بطلان. لا لأنّهما الشخصيّتان الرئيستان في القصّة، بل لأنّهما امتلكا من الشجاعة ما يجعل أحدهما يحبّ الآخر حتّى الغاية، فعاشا البطولة حين عشقا وبقيا بطلين حين واجها صعوبات الحياة، ثمّ وبالرغم عنهما احتملا الفراق وما يسبقه ويليه من أسى وشوق وغضب ورفض، ثمّ رضوخ وقبول ورضا في انتظار لقاء جديد في غير هذا العالم
قصّة اليوم، بطلها عاشق يُتمّ أربعين رحيله بعد أيّام، وبطلتها عاشقة، لولا إيمانها وأولادها، لتمنّت اللحاق به سريعًا لأنّ الحياة من دونه صعبة لا تحتمل. لكنّها تعرف في عمق وجدانها أنّه رحل وهو مطمئنّ إلى أنّها أقوى ممّا تظنّ، وأنّها سترعى الأولاد ولو كبروا وتزوّجوا، وستخبر الأحفاد عنه في سهرات عائليّة لن يغيب عنها، لأنّ البطل لا يموت، فكيف إذا كان بطلًا لقصّة حبّ ووفاء وشرف وسخاء وصيت حسن وذكريات معمّدة بالدمع ومزهرة بالأمل
وكم نحن في أمسّ الحاجة إلى قصص الحب في أزمنة الحروب والجوع والأوبئة والأمراض. فما الذي يداوي اليأس سواها؟ وما الذي يجعلنا نتمسّك بالحياة سوى الأمل في أن نعيش ما يشبهها؟
وقصّة يوسف وتريز حكاية حبّ من حكايات كثيرة يتردّد أصحابها في الحديث عنها أو كشف خفاياها. ربّما لأنّ المجتمع عوّدنا على أنّ زمن الحبّ ولّى، والالتزام موضة قديمة الطراز، لا تلائم العصر
هو العقيد المتقاعد يوسف عبّود وهي تريز ابراهيم، رفيقة الطفولة وابنة الجيران. تحابّا وتزوّجا وأنجبا ثلاثة أولاد. مرّت حياتهما بنجاحات وإخفاقات، اختبرا مرض الابن الوحيد وشهدا أعجوبة شفائه، وعبرا معًا دروب الحياة الصعبة، وقطفا معًا أزهار الفرح من خلال سياج العمر الشائك. فرحا بزواج الابنتين، وحين أصيب يوسف بالمرض الخبيث، خاف على تريز أكثر من خوفه على صحّته
لكن ليست الحكاية هنا، الحكاية في بقاء المرأة العاشقة أشهرًا وهي ترفض مغادرة غرفة زوجها المريض… الحكاية هي أنّه كان يخاف عليها من التعب والإرهاق أكثر من خوفه من السرطان، فطلب منها وهو يواجه الموت بإيمان وشجاعة أن تغفو قليلًا على زنده… الحكاية هي أنّه طلب منها مواجهة رحيله بالصلاة لا بالحبوب المهدّئة… الحكاية أنّ آخر كلمة قالها هي أنّه يحبّها… الحكاية هي أنّها تكتشف عبر غرباء عابرين كم كان معطاء بلا إعلان أو تباهٍ، فتزداد فخرًا به، وشوقًا إليها… فتبكي وتبكي وهي تسأل نفسها كيف تستمر الحياة بلا هذا الرجل الذي كان الحبيب والصديق والزوج والسند
لكنّي أكاد أراها في جنّاز الأربعين تستعيد عمرًا من الحبّ المتبادل، فترفع رأسها بثقة العارفة بوجوده في قلبها وفكرها وأولادهما، فتطمئن إلى أنّها لن تكون وحيدة، ولو خلا البيت من عطره، ولن تكون يائسة ولو مزّقها توقُها لقبلة منه، ولن تشعر بالاختناق ولو أطبقت على صدرها ذكريات معاناته… فهو الآن حيث لا وجع ولا حزن، وهي حارسة ذكراه الأمينة، وحاملة اسمه الفخورة، وحبيبته المتباهية لأنّها معه عرفت العشق والأمان، ولن تدع الموت يقتل ذلك فيها، كي لا تميت حبيب قلبها مرّتين
هذه قصّة حبّ، يموت أحدنا مئة مرّة ومرّة ليختبر بعضَ ما فيها ولو تألّم وحزن وبكى
هذه قصّة حبّ، من خارج الكتب والأفلام والمسلسلات… ابحثوا حولكم عن مثيلاتها لنقترب مع كلّ قصّة منها خطوة نحو الألوهة
*في عرس ابنته قبل رحيله، ويد تريز لا تترك يد يوسف
Therese Ibrahim
تعليقات 1