لا شيء أسود بالكامل: حين تستعيد اللغة إنسانيتها وتنتصر الرواية القصيرة لجوهر الضوء
كتبه محمد فرحات
١. مفتتح الانبهار: حين تسكن القراءة القلب قبل العقل
عشت مع نوفيلا «لا شيء أسود بالكامل» ساعاتٍ لم أنصرف عنها إلا بعد أن طويت صفحتها الأخيرة، لكن حضورها لم يغادرني لحظة بعدها؛ ظلّت تتردد في ذهني كأغنيةٍ حزينةٍ تعرف طريقها إلى الأعماق، وتعيد تعريف الحزن كحالةٍ من الصفاء لا من الانكسار.
لم تكن تلك الساعات قراءةً بالمعنى التقليدي، بل كانت عبورًا في نفقٍ إنسانيٍّ مضاءٍ بوميضٍ داخليٍّ، تكتبه عزة طويل بعينٍ تتقن التقاط التفاصيل الخفية في العتمة، وتدرك أن لا ظلمة تكتمل، ولا وجع ينجو من ومضةٍ صغيرةٍ للنجاة.
منذ العنوان، تصر الكاتبة على أنسنة الظلام: فـ«لا شيء أسود بالكامل» ليست جملة نفيٍ، بل وعدٌ ضمني بأن النور مقيمٌ في الهامش، وأن الإنسانية، مهما التبست مساراتها، لا تفقد بوصلة الضوء. هذا العنوان المفتوح على الأمل لا يقدَّم كزينة لغوية، بل كإعلانٍ فلسفيٍّ عن رؤية الكاتبة للعالم:
كل ما في الحياة — حتى أكثرها وجعًا — يحتفظ بقدرٍ من البياض، وإن خفت ضوؤه.
٢. عزة طويل: الكتابة كخبرة وجودية
تنتمي عزة طويل إلى جيلٍ من الكاتبات العربيات اللواتي يكتبن من داخل التجربة لا من خارجها. هي لا تُنظّر للوجع، بل تعيشه، وتعيد تشكيله على الورق بوصفه مادةً للوعي لا للدموع.
تأتي خلفيتها الأكاديمية — ككاتبة درست الطب النفسي واشتغلت على فهم العوالم الداخلية للإنسان — لتمنح نصها عمقًا سيكولوجيًا يندر في السرد العربي المعاصر، إذ توازن بين الصياغة الأدبية المتقنة والوعي العلمي الدقيق بطبائع النفس وحدودها القابلة للكسر والالتئام
عندما تقرأ أعمالها، تشعر أنك أمام كاتبٍ يشاهد العالم من الداخل. إنها لا تصف المشهد، بل تكشفه من تحت جلده، حيث تتقاطع الفكرة بالعاطفة، وتغدو اللغة كائنًا حيًا يتنفس على إيقاع الوجدان.
٣. في بنية النوفيلا: التكثيف الذي يختزن الحياة

النوفيلا، في أصلها الفني، هي جنسٌ سرديٌّ يتوسّط بين القصة القصيرة والرواية الطويلة، وتقوم على الاقتصاد في الحدث واللغة مقابل العمق في المعنى. في «لا شيء أسود بالكامل»، تنجح عزة طويل في توظيف هذا الشكل ببراعة نادرة.
هي لا تُرهق السرد بتفاصيل زائدة، لكنها تملأ فراغاته بالإيحاء، فتغدو الجملة القصيرة عندها مكثفة كطلقة، والعبارة البسيطة مشحونة بطاقةٍ تأمليةٍ هائلة.
تُبنى النوفيلا على سلسلة من المواقف المتشابكة التي تُشكّل معًا سيرةً روحيةً لشخصياتٍ مأزومة تبحث عن خلاصٍ غير مكتمل. الشخصيات لا تتحرك في زمنٍ خطي، بل في زمنٍ نفسيٍّ متكسّر، تُعيد فيه الذاكرة ترتيب الوقائع وفق منطق الألم لا منطق التاريخ.
وهنا تظهر مهارة الكاتبة في خلق بنية سردية حلزونية، تدور حول مركزٍ شعوريٍّ ثابت: البحث عن الضوء وسط الركام.
٤. اللغة: بين الشعر والاعتراف
أحد أعظم ما في هذا العمل هو لغته.
تكتب عزة طويل بلغةٍ نصفها شعر ونصفها اعتراف؛ لغةٌ تبتعد عن الزخرف، لكنها لا تتخلى عن جمالياتها.
إنها لغة تخرج من الفم لا من القلم، تُشبه حديث النفس حين تهمس لنفسها بما لا تجرؤ على قوله للآخرين.
“حين يغيب الضوء، نكتشف أن العتمة ليست عدواً، بل مرآةٌ نرى فيها وجوهنا الحقيقية.”
مثل هذه الجمل ليست مجرد تأملات، بل هي نقاط انكسارٍ شعوريٍّ تنقل القارئ من سطح الحدث إلى عمق التجربة.
اللغة عند عزة طويل ليست وسيلةً للسرد، بل هي كائنٌ من لحم التجربة نفسها، تتلوّن بمزاج الشخصية وتنبض بوجدانها.
٥. الثيمات الكبرى: الإنسان بين الفقد والمصالحة
في عمق النوفيلا، نجد أن الموضوع المحوري هو الفقد، لكنه ليس فقدًا مأساويًا بقدر ما هو رحلةٌ نحو التصالح.
الفقد هنا ليس موتًا فقط، بل غيابٌ للمعنى، تآكلٌ للهوية، اغترابٌ عن الذات.
تجعل الكاتبة من كل فقدٍ محطةً للانكشاف، ومن كل انكسارٍ لحظةً لإعادة بناء الذات من جديد.
من خلال شخصياتها، تقول الكاتبة إن الحياة ليست ما يحدث لنا، بل ما نفعله بما يحدث لنا.
كل شخصيةٍ في العمل تحمل ظلًا من الكاتبة، لكنها أيضًا مرآةٌ لقرّائها؛ نرى فيهم أنفسنا حين نغيب عن أنفسنا. وتتسلل من بين السطور أسئلةٌ وجوديةٌ ناعمة:
هل يمكن للوجع أن يكون طريقًا للحكمة؟
هل يمكن للانكسار أن يفتح بابًا للحرية؟
هل يمكننا، حقًّا، أن نغفر لأنفسنا؟
تطرح الكاتبة الأسئلة دون أن تجيب، تاركةً للقارئ مهمة الاكتمال.
٦. البنية الزمانية والمكانية: مسرح داخلي
تتحرك الأحداث في فضاءٍ مكانيٍّ ضيقٍ نسبيًا، لكنه يتّسع بالرمز والدلالة.
البيت، الغرفة، الطريق، المقبرة… كلها فضاءات داخلية بقدر ما هي خارجية، تشي بعزلةٍ مزدوجة يعيشها الأبطال: عزلة عن العالم، وعزلة عن ذواتهم.
أما الزمن، فليس تعاقبًا للساعات، بل انقباضٌ واتساعٌ شعوريّ، يشبه زمن الحلم أو التأمل، حيث يمكن للثواني أن تمتدّ عمرًا كاملًا.
بهذا التكوين، تخلق الكاتبة مسرحًا داخليًا، تُدار عليه الصراعات الحقيقية لا عبر الأحداث، بل عبر التحولات النفسية. إنها تنقل السرد من الخارج إلى الداخل، من الواقعة إلى التجربة، من المشهد إلى الوعي.
٧. المرأة في العمل: من الكسر إلى الاكتمال
المرأة في «لا شيء أسود بالكامل» ليست مجرد ضحيةٍ، بل كائنٌ يتقن النهوض بعد كل سقوط.
تعيد عزة طويل رسم صورة المرأة العربية بعيدًا عن التنميط، فهي ليست ملاكًا ولا شيطانًا، بل إنسانةٌ كاملة القلق، تمشي على الحافة بين الحنين والتمرد.
كتاباتها تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه النسوية الوجدانية، التي لا تصرخ ضد الرجل، بل تنادي بإنقاذ الإنسان — رجلًا كان أم امرأة — من هشاشته. الأنوثة هنا ليست جسدًا، بل وعيٌ بالكرامة والاختيار.
ومن خلال هذه الرؤية، تُقدِّم الكاتبة نموذجًا نادرًا للمرأة الكاتبة التي لا تسعى إلى الانتصار على الرجل، بل إلى تحقيق التوازن بين القلب والعقل، بين الحب والحرية.
٨. تقنية السرد: بين التداعي والاستبطان
تستخدم عزة طويل تقنيات سردٍ معاصرةً بذكاء، أهمها التداعي الحر والاستبطان الداخلي. فالسرد عندها لا يسير بخطٍّ واحد، بل يتشظّى إلى مقاطع تتناوب بين صوت الراوية وذاكرتها، بين الحاضر والماضي، بين الواقع والحلم. بهذا التفكك الظاهري، تصنع الكاتبة تماسكًا باطنيًا يجعل القارئ يعيش التجربة بدلًا من أن يقرؤها. كما تستخدم الرمز والإيحاء كوسائل فنية لتكثيف المعنى:
الزهرة البيضاء في الغلاف مثلًا ليست مجرد عنصر بصري، بل مفتاحٌ دلاليٌّ يختصر فلسفة النوفيلا كلها:
في قلب السواد، تولد زهرة.
٩. أثر القراءة: من المتعة إلى التطهير
من النادر أن تجمع رواية قصيرة بين المتعة الجمالية والتطهير النفسي، لكن «لا شيء أسود بالكامل» تفعل ذلك ببراعة.
هي عملٌ يجعلك تبتسم وأنت تبكي، ويتركك متصالحًا مع وجعك لأنك رأيته في مرآة الفن. حين أغلقت الكتاب، لم أنتهِ من القراءة حقًّا؛ لقد بدأت قراءة نفسي. العمل يذكّرنا بأن الأدب لا يُكتب فقط ليُقرأ، بل ليُشفى به. ولعل هذا هو سر خلوده الداخلي: أنه يعيدنا إلى إنسانيتنا الأولى، حيث الجمال لا ينفصل عن الوعي، وحيث الفن ليس ترفًا بل مقاومة.
١٠. عزة طويل: صوت أنثوي بطعم الحكمة
في زمنٍ يكثر فيه الصخب، تأتي عزة طويل لتكتب بصوتٍ هادئ، لكنه يخترق الصمت كالضوء. إنها كاتبة تعرف أن الأدب لا يُقاس بعدد الصفحات، بل بعمق الأثر. نوفيلا واحدة منها تكفي لتمنحها مكانة بين أبرز الأصوات السردية الجديدة في العالم العربي، لأنها تمارس الكتابة كفعل معرفةٍ ومصالحةٍ لا كزينة لغوية.
هي تكتب لتقول:
إننا حين نفهم أنفسنا، نصير أجمل.
وحين نتصالح مع وجعنا، نصير أحرارًا.
خاتمة: البياض الكامن في السواد
«لا شيء أسود بالكامل» ليست فقط رواية، بل درس في الرؤية؛ كيف يمكن للإنسان أن يرى النور في قلب الجرح، وأن يحوّل الألم إلى معنى. إنها عملٌ يُذكّرنا بأن الأدب الحقيقي لا يصف العالم كما هو، بل كما يمكن أن يكون.
بعد أن أغلقت النوفيلا، شعرت أنني خرجت من تجربةٍ تطهر القلب والعين معًا.
وما زالت الجمل تدور في رأسي كأجراسٍ صغيرةٍ توقظ الذاكرة:
لا شيء أسود بالكامل…
لا أحد ينجو وحده…
النور لا يأتي من الخارج، بل من شقوق الروح.
لقد منحتنا عزة طويل عملًا يستحق أن يُقرأ ببطء، وأن يُعاد بامتنان، وأن يُدرّس كنموذجٍ على كيف تتحول الرواية القصيرة إلى تجربة إنسانية كاملة.
ولعل أجمل ما في هذه النوفيلا أنها تذكّرنا بأن الجمال، مهما توارى، لا يموت؛ لأنه ببساطة لا شيء أسود بالكامل.

محمد فرحات