لبنان بالمفرق
د. شربل داغر
لبنان بالمفرق
اطلعتُ، في جريدة لبنانية، قبل أيام، على صورة لحرم جديد للجامعة الاميركية (بيروت) في جزيرة قبرص.الخبر عادي، إذ إن جامعات وجامعات لبنانية ودولية باتت مثل الماركات التجارية المسجلة قابلة للانتشار خارج مواقع بلد المنشأ.
إلا أن هذا يصيب أول جامعة (أول “كلية”، في تسميتها الأولى) في العالم العربي، بعد أن أقدم مبشرون بروتستنت من الولايات المتحدة الأميركية على تأسيس “الكلية السورية الإنجيلية” فيها، في العام 1863.يُصيبها، بعد أن ابقتْ على حرمها التاريخي في بيروت من دون أي توسع، لا في المناطق اللبنانية (مثلما فعلت جامعات لبنانية أخرى)، ولا خارجها.
اللافت في تاريخ هذه الجامعة هو أنها كانت، على مرّ تاريخها، جامعة جاذبة لأساتذة أجانب، ولطلاب متنوعي ومتعددي البلاد والانتماءات.ولا يَخفى انها كانت جامعة نُخب واسعة من طلاب الخليج، أو من الفلسطينيين، أو من النخب (الطائفية المختلفة) اللبنانية. يكفي القول إنها جمعتْ، في حرمها، في قاعاتها، في جدالاتها : أنطون سعادة، وجورج حبش، وقسطنطين زريق، مثلما جمعت بين أساتذتها : كرنيليوس فان ديك، وجبر ضوميط، وشارل مالك، وكمال الصليبي.ما يَخفى وراء هذا القرار ان المبشرين الرواد فكروا، في بداية نشاطهم، في تركيز مجهوداتهم (بين مطبعة وجامعة) في جزيرة مالطة، قبل أن ينتهي قرارهم إلى اعتماد بيروت في قلب المتوسط بدورها.كانت بيروت تُبشر، منذ العقود الأولى من القرن التاسع عشر، بميلاد مدينة واعدة. هذا ما لن يتأخر سليم البستاني عن قوله في جريدة والده، “الجنان”، في العام 1872 : بيروت باتت “مدرسة لجزء عظيم من قارة آسيا، فضلا عن انها صندوق سورية وفلسطين، وندوتها التجارية”.لا يَبعد موقع الجامعة الأميركية عن موقع منارة بيروت، فيما كانت بيروت نفسها قد تحولت إلى منارة للبنان نفسه، وأبعد منه.
قرار الجامعة الاميركية احتياطي واستراتيجي في الوقت عينه. لكن شركات عالمية عديدة اقفلت ابوابها نهائيا في بيروت…هذا اللبنان، الذي نعمنا بخيراته، يُقفل العديد من أبوابه، وتنتقل “أدواره” المختلفة إلى خارجه، حتى إن دولا وجهات لا تتأخر عن اعتماد هذا النموذج لديها، ولو بالمفرق.
هذا البلد الذي عرف أشكالا أكيدة من التعايش، ومن التفوق في غير مجال ومجال، بات برسم التصفية… بكل أسف. والأدهى أن لا بلد في العالم العربي قابلْ لتأدية مجموع وظائف بيروت-لبنان السابقة.أنحن فقط، بمن فيهم الجامعيون اللبنانيون، مَن يَخسر لبنان؟ هل يَشعر غيرنا بهذه الخسارة؟
(جريدة “نداء الوطن”، بيروت، 15-4-2022)