قلَّة هم الذين حين نقول لبنان، نقول إنهم لبنان. وديع الصافي أحدهم. وغدًا يدرس أبناؤنا أسماء الوطن، فيقولون: لبنان، فينيقيا، أرض كنعان، جنة ألله ع الأرض، بلد الأرز، وديع الصافي.
مذ تفتَّحت شفتاه على الغناء، انْقَطَفت باقة زهر، ونبتت سنديانة سنبقى نتظللها، ولو غاب الكبير وديع بالجسد. يكفي أنه يُضيِّفنا الفيء، قدرَ ما تملأ غصون صوته الفضاء.
أسترجعه اليوم… لأن من ملأوا ساحة الغناء، بعده، لا يسـتأهلون، في معظمهم، أن يكونوا غبارًا متناثرًا عن بيدره.
“ع اللوما اللوما”، الأغنية التي أضافها، في آخر لحظة إلى أول أسطوانة صدرت له، لأن الأسطوانة كانت ناقصة وتحتمل بعد بضع دقائق، هي بداية الشّهرة اللي خيَّمت على كل الزمن من أوله، إلى أن “تخلص الدِّني”. ومذذاك، ومع مواويل وأغنيات سبقت ولحقت، قيل وسيقال: أروع صوت وأكمل صوت وأجمل صوت عرفته البشرية، ولن تعرف أشجى منه وأصفى وأحلى.
وحين طلع بموَّال “لبنان يا قطعة سما” (من شعر رفيق دربه “أبو لبنان” يونس الابن)، وصل الأرض بالسماء على زيح صوته، وأخفى من كانوا يطلقون العنان لمواويلهم، في الجيب، إذ نشأت مدرسة غناء اسمها وديع الصافي.
هل مرَّ ملحن كبير أو شاعر كبير لم يتمنَّ أن يكتمل كتاب شهرته، ولو بأغنية موقّعة لوديع الصافي، والصافي يجعل بصوته اللحن أحلى وأصفى؟ هذا الصوت الذي اعْترف بفرادته وعظمته كبار، من محمد عبد الوهاب إلى الأخوين رحباني… ومن لا يعرف قصة الترمس؟ كانت سهرة، وطلب عبدالحليم حافظ أن يغني في حضرة وديع الصافي موال “ولو” بإحساسه العالي. ومن ثم أعاد “أبو فادي” غناءه. فقال له عبدالحليم: “يا أستاذ إحنا بعديك ح نروح نبيع ترمس”.
وحين ينقر الصافي على وتر عوده، بتقسيمة، قبل عوده، تدوزن الفرقة الموسيقية على صوته، لأنه وحده بين قلة، أي بنسبة واحد على مليون بين البشر، أعطي، سبحان الله، نعمة أن يمتلك الأذن المطلقة، l’oreille absolue.
وحين تجاوز عطاؤه خمسة آلاف أغنية ولحن، لم يدع إذاعة وشاشة ومسرحًا وأسطوانة، تعتب على عُربةٍ من عُرَبه، وعلى جواب في موال أو قرار، وعلى “رندوحة” نغم، وعلى ترنيمة وترتيلة وابتهال تمجد الخالق، وعلى شهقة طرب، يُنعت بالأصيل.
وحين أدى “ناطرك سهران ع ضو القمر”، ذات حفلة آخر ستينات القرن الماضي، عمل، على جاري عادته، ما لم يسبقه إليه أحد: تنقَّل من مقام إلى مقام فمقام. أوقفت الآلات الموسيقية العزف مصاحَبة،ً ولم يدرك العازفون أي سكة سلك، ليتبعوه. حتى إنهم لك يجرأوا حتَّى على الزَّنِّ… على أي وتر.
وحين غنَّى لبنان صار لبنان أحلى وأغنى. وحين غنَّى الإنسان والأرض والحبيبة والقرية والأم والابن والبطل والصيف وتشرين والحصادين ومعلم العمار والعصفور والبحارة والغياب، انتشلهم من وجعهم وغربتهم وردهم إلى ضيعة الفرح. وحتى حين “رمى حالو من العالي” أو حين “تهدّو فيي ع سطح البلديي”، كرمى لمن أحب، “راحت علينا” نحن، على كل آهٍ قلناها من القلب، لأنَّ ما يؤديه، خصوصًا وهو “يشكو للبير”، ملآنُ صدقًا وكرمًا وعاطفة وحبًّا.
قلت ذات مرة في قصيدة عنه “صَوْتو الْبيطَلِّعْ عَ السَّما، كْنيسِةْ وَتَرْ”. وصوته أيضًا سرير، وكم هدهدتُ لابنتي على زنديَّ على أغنية لـ”عمو” وديع كي تنام. وحين أخبرته، يوم قصدته إلى منزله في المنصورية، أن ابنتي لا تنام إلا إذا سمعت أغنية لوديع الصافي. طلب إليَّ أن أهاتفها. هاتفت، وأعطيته التلفون، وقبل أن يقول “ألو”، رندح لها: “طلّو حبابنا طلّو”. وبدلًا من أن تنام، وعَت من مطلع عمرها… الجمالَ والأصالة.
وصوت وديع الصافي وطن أيضًا، يعيد “الغيَّاب” من أول الأوف… و”يا مهاجرين ارْجعو”. أو يقرِّب أهل الوطن بعضهم إلى بعض، و”جايين يا أرز الجبل”، من نيحا (الشوفية مسقطه)… إلى أبعد حبة تراب على أرض لبنان الـ”أغلى من كنوز الدَّهب”.
وكم من ليالٍ، في غربة أخويَّ عن الوطن، أمضيناها نتواصل بكل وسائل الاتصال الحديثة، وأغلب الكلام يكون على أغنية أو موال لوديع الصافي، فننبش كنوزه المزروعة بأرض الذاكرة أو بأرشيف ما، أو على موقع إلكتروني أو في تسجيل عتيق، ونفرح أننا نتقاسم لقمة الغربة.
وصوت وديع الصافي وطن أيضًا، يعيد “الغيَّاب” من أول الأوف… و”يا مهاجرين ارْجعو”.
مات وديع الصافي، أو وديع بشارة يوسف فرنسيس المولود في الأول من تشرين الثاني من العام 1921، قبل أحد عشر عامًا. الموت حقٌّ. ولكن هل مات أمس فحسب؟ كلا… مات من زمان، مذ بدأت القيم تنحدر، على كل المستويات، ولم نعد نسمع أغنية لوديع الصافي أو لصباح أو لفيروز، ولجميع الكبار الذين صنعوا مجد لبنان الفني الإبداعي، عبر الإذاعات والشاشات التي ملأت هواءها حفنة من المخنثين، تقف وراءهم شركات إنتاج تتاجر بالفن على حساب الأصالة والأصول، وبات الجنس والطعام وخزعبلات الغيب وحدها الموضوعات التي تتكل عليها هذه الشركات لتستمر وتغتني. بل راحت الشركات، ما غيرها، تسوِّق، عن وعي أو عن غباء، لمجموعة تدخل من ضمن منطومة “نظام التفاهة”، مسايرةً للموجة السائدة، بهدف تسطيح العقول وتسميم النفوس لتسهيل السيطرة على الناس.
مات وديع الصافي حين باتت مبادئ السياسة والاقتصاد والمجتمع، تشبه الترمس الذي تحدث عنه عبدالحليم. لم تعد هناك أخلاق ولا قيم ولا قواعد، فطغت الوصولية والهيمنة والزحفطونية…
يوم غاب “أبو فادي”، في تشرين الأول من العام 2013، استغرب البعض ألَّا يُعلن يوم حداد على هذا الكبير. مبدع كوديع الصافي تخلِّده أغانيه وصوته، ولا يعلن عليه الحداد. ولو كان يومذاك قرار السلطة لي، لفرضتُ على كل وسائل الإعلام، ولو غصبًا عنها، أسبوعًا كاملًا تكون كلُّ مواده فن وديع الصافي. لا بل لفرضت أكثر، برامج فنية تحيي أعمال الكبار الذين رحلوا، وفي مقدمهم وديع الصافي… فسلطات الترمس هذه، لو كانت الأصالة تهمُّها، لحافظت على قيم السياسة التي هي في حد ذاتها فن قيادة الشعوب.
لبنان الترمس ليس لبناننا. لبنان وديع الصافي لبناننا، وهو الذي يبقى. ولا ننسى أنَّ من حمى لبنان من الزوال، بعد الحروب التي توالت على أرضه من العام 1975، هو 25 سنة من الإبداع والعطاء في مجالات الفن والأدب والمسرح والرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص، بين العامين 1950 و1975، لا أي أمر آخر.
صوت وديع الصافي خالد وأعماله أيضًا، في البال والذاكرة، عناوين نبني عليها الجمال والغد الجميل، ونبقى أصلاء طيبين مؤمنين، مثلما عرفنا أبا فادي طوال سنيِّ عمره الـ92.
هكذا هو لبنان، وليس إلَّا هكذا. وهكذا هو شعبه، وليس إلَّا هكذا. ولا يخدعنَّكم “كم بيَّاع ترمس”… ينادون على بضاعتهم الفاسدة في ساحاتنا وشوارعنا.
وديع الصافي… نعرف أن السماوات سبع. برحيلك زادت تلك السماوات سماء صوتك، فصارت ثمانيًا. وكلَّما استمعنا إليك، نردِّد معك: “يسعد صباحك هـ الحلو، يا الإنت للدّنيا صَباح”. أليس اسمك مرادفًا لاسم لبنان؟