مئة عام مرَّت على غياب ابنة عمشيت الرِّوائية والصَّحافية عفيفة كرم، وقد ملأت عمرها القصير (41 عامًا)، في مسقطها اللبناني، وفي مهجرها الأميركي، ريادات وعطاءات.
احتفَت بذكرى الراحلة (22 تمُّوز 1883 – 28 تمُّوز 1924) بلدتها عمشيت، باحتفالية أقيمت في بيت “ذاكرة عمشيت”، شارك فيها رئيس البلدية الدكتور طوني عيسى، والدكتور نوفل نوفل باسم المجلس الثَّقافيّ في بلاد جبيل، والرَّئيسة السَّابقة لجامعة الحكمة الدكتورة لارا كرم البستاني التي تناولت من مسيرة المحتفى بها، النضال من أجل حقوق المرأة، ونائب رئيس جامعة الرُّوح القدس الأب البروفسُّور كرم رزق الذي فنَّد رواية “بديعة وفؤاد” للراحلة، والبروفسور فريديريك زخيا الذي عرف الحاضرين بعفيفة كرم وقدم لوحة زيتية بريشته عنها، والدكتورة إليزابيث سايلور، من جامعة كاليفورنيا، بركلي، عبر تطبيق زوم. وأدارت الاحتفالية منسّقة اللَّجنة الأدبيَّة في المجلس الثقافي الدكتورة رحاب الحلو، وتخللها عرض مسرحيّ للدُّمى لطلَّاب ثانويَّة عمشيت الرَّسميَّة عن عفيفة كرم.
كنت ضمن المشاركين، فوجدتني أبعث إلى عفيفة كرم برسالة بالبريد المضمون. جاء فيها:
زميلتي العزيزة عفيفة
وبعد،
أتمنَّى أن تصلَ إليك رسالتي وأنتِ ملءُ رقادِك، وإن بعيدةً عن الجذور.
تحيَّةً لك من عمشيت، وأنتِ في ذاكرتها رائدة. عمشيتُ مسقطُك الذي هجرتِه من دون عودة، يشدُّك إليهِ الحنينُ والدَّساكرُ الحميمة والمنازلُ الجميلة وقلوبٌ ووجوه.
تحيَّةً لك من تموز، شهرِ ولادتك، وشهرِ غيابك، وقد مرَّ عليه مئة عام، سأخبرك في ما يأتي ما حلَّ، خلالها، بالصَّحافة التي ترهبنتِ لها في مهجَرِك الأميركي، وبالإعلام عمومًا، يا من كنتِ رائدةً في بَلاط صاحبة الجلالة، وفي سرديَّة الرِّواية، وفي اعتناق القيم ورفعة الأخلاق.
مئةُ عام على الغياب، وقد جسدتِ، يا زميلتي العفيفة، مفهومَ الرِّيادة، في كلِّ ما به أتيتِ. يكفي أنَّك سبقت الزَّمن إلى نشر الرِّواية وإنشاء صحيفتين تُعنَيان بالمرأة، آن كانت المرأةُ في بلادنا، على هامش الزَّمن والحياة، رحِمًا تحمِل وتلد ليس إلَّا. كنت تَعْدين والزَّمنُ من خلفِك يحاول شدَّك من ثوبك، ليلحقَ بك، فلا يُفلح. وإذا ما وُفِّق مرةً في التقاط طرفِ خيطٍ من ذاك الثوب، رمقتِه بنظرة، و”شمطتِه من دينتِه” أن حِدْ… حِدِ، الدَّربُ لي، والغدُ لي، اتْبعني في هدوء وكفى.
كمثل بنات تلك الأيَّام، ارتضيتِ العريسَ الذي تقدم إليكِ، برضى الوالدين، من دون أن تعرفيه إلَّا حين أصبحتما تحت سقف واحدٍ، في تلك الغربة، وصقيعِها… وما امتعضتِ ولا ثُرت ولا أعليتِ الصوت. وما أنجبتِ، ولا تذمَّرت. فهل تعرفين، يا عفيفة، أو هل تبلغ إليك أخبارُ كثيراتٍ من صبايانا هذه الأيام؟ أيَّ بطرٍ يعشنَ، وأيَّ بهارجَ ترافق زِفافَهنَّ؟ وكم حفلةٍ يُقمن قبل أن يقُلن النَّعم؟ وكم يصرِفن من مال، وإن كن معدَمات؟ وأيَّ نعم تلك الَّتي يقلنَ، ومشروع الطلاق حاضر في أذهانهنَّ قبل أن يتلفَّظنَ بالكلمة؟
تغرَّبتِ بالجسد، لكن روحَك بقي هائمًا في عمشيت. الطبيعة الخلابة من خلفك ومن حولك، والبحر من أمامك، لكنَّ الحنين هو الذي كان يأتي بك، كلَّ يوم، تمرِّين بهذه الساحة، وتعودين. ملأتِ وقتك بالقراءة. وهناك… توسَّم فيك خيرًا نعوم مكرزل، فأولاك رئاسة تحرير صحيفته “الهدى”، فكنت أوَّل رئيسة تحرير. لا بل سبقتِ الجميع إلى إصدار مجلة “المرأة السُّوريَّة”، وهي أوَّل مجلَّة عربيَّة مستقلَّة للمرأة، وبعد سنة أصدرت مجلَّة مستقلَّة تُعنَى بشؤون المرأة العربيَّة في المَهجَر، سميتِها “العالَم الجديد”.
هل تعرفين يا زميلتي العفيفة، شيئًا عن حال صحافتنا هذه الأيام؟ هل تبلغ إليك “إبداعات” صحافيين وصحافيات من عندنا، مملوئين حقدًا وجهلًا وغطرسة وإسهالًا كلاميًّا وادعاء فارغًا ككرش صاحب وجاهة؟
كانت صحافة لبنان منذ مئة سنة إلى أمس قريب، منارة. فباتت، على قلة صحفها الصادرة اليوم، قذارةً يقتات منها روَّاد وكرِ دعارةٍ لغوية وفكرية وسياسية واجتماعية، لا احترامَ فيها لمقام، لا رهبة أمام قيم. كل شيء مباح، حتى التجريح الشخصي. تحيا على الإشاعات، أما الحقيقة فاستُبدلت بها الدولارات… كنا نأنف من الصحافة الصفراء التي كانت شواذًا، فإذا بنا اليوم صحافةٌ صفراء بامتياز. قاعدةٌ مَن يخالفها يكون هو الشواذ.
وأما إعلامنا الذي كان يصدِّر المعرفة والذوق والقيم إلى هذا الشرق التعس، فباتت تحكمه ثلاثة اعتبارات، لا تقيم للإنسان وزنًا، ويسيِّره رجال مال وأعمال لا يفقهون في الثقافة والمعرفة وحتى الترفيه شيئًا، سوى طول رقمِ الحساب في المصرف، زمن كانت مصارف. الاعتبار الأول جنسي. إذا لم يطغَ الجنس بأدواته وتعابيره ومشاهده على أي برنامج، يكون البرنامج فاشلًا ولا يستقطب معلنين. والاعتبار الثاني غيبيّ، إذا لم يتنبأ فلان بتعرض صحافي لسوء، وإذا لم تتوقع فلانة أن حادث سير سيقع على طريق دولية، وإذا لم يصادر ثالث كلَّ شهادات الطِّب والعلمِ المتقدِّم ليعرِف مِن صوت سيدة اتصلت به هاتفيًّا مباشرة، أنها يجب أن تزيل مرارتها، فلا ينتهي نهار المحطة التلفزيونية على خير. والاعتبار الثالث هَضْميّ، عملًا بالمثل القائل “بطن ملان كيف تمام”. فكم من “شيف” يتحفنا بمأكولاته عبر الأثير، فيحاكي فينا معدتَنا والأمعاء، ليس إلَّا؟
وفي الاعتبارات الثلاثة التي تتوجه إلينا، نحن بني البشر، فتخاطب غرائزنا، كأننا حيوانات، لا عقولَنا بصفة كوننا بشرًا، يسقط الإعلام ومحطاتُه والحرية والذوق والكرامة الإنسانية، ويسود نظام التفاهة.
زميلتي العزيزة العفيفة
لن أطيل عليك أكثر، خشية خدشِ هناءة رقادك.
ما اكتفيتِ بريادة الصحافة رئيسةَ تحرير ورايةَ حقٍّ وصوتًا عاليًا وقلمًا جرئًا، من أجل المرأة، بل رُدت أيضًا عالم الرواية، فخلَّفتِ لنا ثلاثًا، ناهيك بالأخرى المعرَّبة، فكانت “بديعة وفؤاد” و”غادة عمشيت” و”فاطمة البدويَّة”.
ولكن يا عفيفتي الكريمة، هل تتابعين مسار الرواية في بلادنا اليوم؟ وهل يبلغ إليك مآل موضوعاتها وأشكال كاتباتها، خصوصًا كاتباتها، مذ طغت الاعتبارات الثلاثة المذكورة أعلاه على عالم النشر؟
صحيح يا زميلتي أن الشِّعرَ ما زال يحافظ على مكانته، أولَّ بين الفنون. لكن الويل الجبراني يدفعني إلى القول: ويل لأمة كثر فيها الشعراء وقلَّ فيها الشعر، وكل فرد يحسب نفسه أمير شعراء. لكن الأصح أيضًا أنَّ كلَّ من “حلشت” شعر جارتها في “خناقة” على شطف درج، تريد تحويل هذه المناسبة العظيمة موضوعًا لرواية، فتتبرج وتتمكيج وتتبودر، ثم تطبع روايتها، وتدعو صديقاتها ممن يتبرَّجن ويتمكيجن ويتبوردن، ليحتفين معها بروايتها، وتعرِّف عن نفسها أنها روائية. وهيهاتَ منها الرِّواية ومن كتب الرِّواية.
أيتها العفيفة الكريمة، عصاميةً عشتِ، أفنيتِ عمرَك القصير في التزام القيم، وساندت فقراء المهجر فأقمت لهم ميتمًا، ثم مستشفى، وكنت سندًا لآلام شعبك هنا، من غربتك هناك.
بك، وبأمثالك، تيقَّنت مما نقله الكبير سعيد عقل المشغوف بالله والعقل ولبنان، عن مؤرخين كبار، رأيَهم في المرأة اللبنانية، عبر العصور. قال صاحب لبنان إن حكى، وبلهجته الزحلاوية: “المرأة اللبنانية لا يزوبنُونها، بل يتزوجونها”. هل سمع هذا الكلام ذاك الذي اتَّهم الفينيقيين بأنهم كانوا يبيحون نساءهم لمن يشطِّط هنا؟ وهل قرأ عنك، أو سمع بك، وتعطَّر بصيتك وسمعتك، ليشمخ ويفخر بدلًا من أن يفتري على أجداده وجداته؟
زميلتي العزيزة عفيفة
أطلت قليلًا، لكن المناسبة تحتمل بعد أكثر، لنفيَك ولو قليلًا من حقك.
واسلمي إلى زميلك الذي خلع عنه صفة الإعلامي الممجوجة المحقَّرة من بعض أهل الإعلام، ولا يستخدم صفة الصحافي، بل يؤثر عليهما لقب الشاعر، لأنَّ الشِّعر، بعد طولِ باع، وكثيرِ معرفة، وحدَه الخلاص.
واسلمي هانئة في رقادك.
على فكرة، المكتوب “مسوكر”، بالبريد المضمون. هل كنت تفضِّلين، عزيزتي عفيفة، أن أرسله عبر واتس أب؟