مجلات الأطفال في الزمن الجميل...اقرأني كما كنتَ طفلًا... فهنا يبدأ الحلم، وهناك لا ينتهي/"الزمن الجميل"...هل كان جميلا حقا؟ (18)

الكاتب مروان ناصح
كانت مجلات الأطفال -في الزمن الجميل- نوافذ من ورق تُطلّ على عوالم من سحر.
لم تكن صفحاتٍ تُقلب فحسب، بل مراكب خيالٍ تبحر بالأطفال نحو الغد.كل عددٍ منها كان وعدًا بلقاء، وحين يصل إلى أكشاك الجرائد، كانت القلوب الصغيرة تخفق، كما لو أنها تنتظر حبيبًا عاد من السفر.
-سندباد… رياح البحر وعبق المغامرة:
من صفحات “سندباد” هبّت علينا رياح البحر الأولى.كنا نبحر مع الفتى النحيل في سفن من حبرٍ وأمنيات، نواجه العواصف ونحاور الجانّ ونعود سالمين إلى شطّ الطفولة.
كانت المجلة تفتح أبواب الخيال، كما يفتح البحر أذرعه للعصافير، وتجعل الطفل يشعر أن الحكاية يمكن أن تكون قدرًا جميلًا، لا مجرد تسلية قبل النوم.
-سمير… صديق الضحكة والفكرة:
أما “سمير”، فكان صديقًا لا يُفارق القلب. ضحكته تملأ الصفحات، وحكاياته تنساب بخفة النسيم بين الدروس والواجبات.كان يُعلّمنا دون أن يتكلف التعليم، يُربينا على البهجة والذكاء، ويُخفي خلف كل نكتة فكرة صغيرة، تنبت في الوجدان كزهرة لا يراها إلا القلب.
-ميكي… سحر الألوان وحيلة الأبطال:
ويا لروعة “ميكي”!
كانت المجلة عالمًا من الألوان الناطقة، ومدينةً يسكنها فأرٌ طيب القلب ورفاقه المدهشون. من بين ضحكات “ميكي”، ومقالب “بطوط”، وذكاء “فرفور، تعلمنا أن الطيبة لا تعني الضعف، وأن الذكاء يمكن أن يكون لعبةً لطيفة بقدر ما هو سلاحٌ نبيل.
-سوبرمان… الحلم الذي يحلق:
ثم جاء “سوبرمان” ليُعلّمنا أن السماء ليست بعيدة. كنا نتابع مغامراته بشغف، نحلم بقدرةٍ على الطيران، ونحاول أن نرتدي في الخيال عباءته الحمراء. لكننا، في الحقيقة، كنا نتعلم معنى الخير الذي لا يتقاعد، والشجاعة التي لا تحتاج إلى عضلات، بل إلى قلبٍ يصرّ على العدالة.
-الكتابة الأولى… من تأثير المجلات:
حين طلبت منا المعلمة أن نكتب قصة قصيرة، كتبت عن رجل يعيش فوق غيمة… كان اسمه يشبه أحد أبطال المجلة. ضحك أصدقائي من الفكرة، لكن المعلمة لم تضحك، بل قالت: “هذا خيال جميل… تابع”. منذ ذلك اليوم، عرفت أن ما أقرأه ليس للمتعة فحسب، بل هو زرع صغير بدأ ينمو في أعماقي.
-رسوماتٌ تتنفس الجمال:
كانت الرسوم آنذاك قصائدَ من ألوان، تُغنيها الفرشاة على مقام الحلم. ملامح الشخصيات ناعمة كابتسامة أمّ، والخطوط تحكي أكثر مما تقوله الحروف.كانت العين تقرأ قبل اللسان، والعقل يسافر قبل أن تُطوى الصفحة.
-مفاجآت وأسماء على الغلاف:
ما أجمل تلك اللحظة حين نرى أسماء الأطفال الفائزين في المسابقات! كم حلمنا أن يظهر اسمنا بين تلك الحروف الصغيرة في ركن القراء! كانت المجلات تمنحنا شعور البطولة الأولى، البطولة التي لا تحتاج سيفًا ولا درعًا… يكفي أن يذكرك العالم بحرفٍ من اسمك.
-حين بدأت الأوراق تُطفئ ألوانها:
ثم جاء زمن الشاشات، فغابت المجلات تباعًا، كأن الأضواء الجديدة لم تحتمل رائحة الورق. انطفأت سندباد، ونام سمير، وتراجع ميكي إلى أرشيف الذاكرة. لكنْ كلّما صادفنا غلافًا قديماً في زاوية مكتبة، عاد الطفل فينا حيًّا، يركض بين الصفحات، ويضحك كما كان، غير مصدق أن الورق يمكن أن يشيخ.
-خاتمة:
كانت مجلات الأطفال مدارس للدهشة قبل أن تكون مدارس للقراءة. علّمتنا أن الحلم حقّ، وأن الفضيلة يمكن أن تُروى في قصة، وأن الخيال ليس هروبًا من الواقع، بل عبورًا أجمل إليه. وها نحن اليوم، نطوي ذاكرة الأعداد القديمة كما تطوى رسائل العشاق، نبتسم ونهمس:
ما زالت طفولتنا هناك، تلوّح لنا من وراء الغلاف، وتقول: اقرأني من جديد… فالدهشة لا تشيخ.