افتتاحية العدد بقلم رئيسة التحرير
الأديبة إخلاص فرنسيس
هل فُرض على الحبِّ أن يهاجر أو ينزوي أو ينتحر؟ ذلك الحبّ الذي وحده يسبغ صفة الإنسانية على الانسان، ماذا أقول عنه وهو الذي أمامي ينتفض كنمر جريح؟ تتملّص منّي الكلمات، ترفضني، وتتوحد ضدّي في منفاي الذي لا يعوّضني عن سنديانة واحدة في ضيعتي الجنوبية النازفة، ليس بوسعي أن أتماهى في الكتابة والصرخات فوق الأنقاض وتحت الأنقاض، تستغيث بما تبقى من حياة: “لي الحقّ في الحياة”. تتعاقب المشاهد، تتهاوى الظلال، أتمرّغ في نزفي، أحاول أن أمسك بمقود الزمن، تغمرني تعاسة، يتجاوزني (نهر الرماد)، ثمّ ينتحر كي لا يرى الكرامة المراقة في (لبنان الكرامة ). أرتّب، وأخفي أحزاني في خزانة المطر، وأطوي تفاصيله اللينة كلما اشتدّت الريح، أشحذ منه حروفًا باسمة، أتأبّط الألم أملًا في (الذي يأتي ولا يأتي)،أحاول أن أمارس جنوني، أحرّك أناملي بما تبقّى لي من عزم كاد يتخلّى عنّي. ترسم بيروت زرقة البحر بالدم المهدور، ترتدي قميصًا قد قُدَّ من كلِّ الجهات. هل كُتب علينا أن نشهد مصرع الحبّ على مذبح الهمجية ؟ هل ولدنا لنعيش عبيدًا في ساحات الشوك والهالوك والخديعة؟ قلمي نفد صبره، ولم يعد قادرًا على استيعاب ما يدور، ومن يدير هذه الرحى الجهنمية التي تسحق الأرواح التي خُلقت للحرّية والحياة. الجنوب الذي أنتمي إليه، فيه رائحة أبي وأمّي، وذكرياتي، وحبّي الأول، الجنوب الذي لم يعد ينتمي إلّا إلى الدم الذي يراق مجانًا كما لو كان ماء. أنا ابنة ثقافة الحياة، فلماذا تتحكّم بي ثقافة الموت ؟ أنا ابنة جبران ونعيمة وفيروز، فلماذا الهمجية ترسم طريقي إلى الجلجلة؟ خيبات تترى، تتلألأ كعيون الأبالسة، تحكم قبضتها على أنفاسي، تعلّقني على مشجب الريح والعبثية.
الأفق نار تجلد سماء أمنياتي، وأنا مغروسة خلف النافذة الهرمة، مهووسة بوساوسي وهواجسي، والأرض كتلة متورّمة من غوغاء وفوضى، تخدع كلّ من مشى فوقها. على دفتر غربتي الصدئ سحبٌ متمخّضة بالاصفرار، لعبة جهنمية، أرقب برعم الروح بعد انطفائه، وعيناي أغنية ترحل صوب الوطن الذي يحتلّني، فتتطاير الوجوه أمامي محاولة سبر غور الأفق، أتفقّد جواز سفري، قلمي الذي أنهكه الترحال ما بين الموت والولادة، غمرته الأمطار المجنونة، ومزاجية الريح والألوان الباهتة، ودمعة مزمنة غدت مألوفة وأليفة على وجنتي. أحتاج إلى قليل من الوقت، الوقت الذي يهرب منّي كما لو كنت أرجوحته المحطّمة، (ورغباته المهشَّمة). أتحسّس حقيبة السفر، أطوي الجراح تلو الجراح، يسخر منّي بياض الورق، يوثق أناملي بين ظلمة وحنين، وليل بلادي حيث تعرّتِ الحياة من دهشتها، وفقدت الإحساس بالألفة. “نحن محكومون بالأمل” هكذا قال ونوس، وأنا على خطاه سائرة على الرغم من وعورة الطريق ، فليس أمامي سواه طريقًا ونداء خالدًا: لبنانُ كانَ، يكونُ، سيكونُ..
للقراءة والتحميل اضغط هنا