افتتاحية العدد 19
بقلم رئيسة التحرير: إخلاص فرنسيس

في بداية نهاية كل عام، وكلّ عام وأنتم بخير، نختتم عامًا ونستقبل آخر، وكلّنا أمل بأن يكون قرّاؤنا ومحبّونا ومتابعونا في أسعد حال. نأمل أن تتحقّق الآمال والطموحات والأحلام لكل فردٍ شارك معنا بفكرة، أو بحث، أو ندوة؛ فـ غرفة 19 لا يتحقّق وجودها إلا بكم، وبجهودكم جميعًا.
عامٌ يطوي آخر صفحاته، لكن وهج الإبداع والعطاء فيه لا ينطفئ.
عامٌ تقاسمت فيه الإنسانيّة وجعًا وجمالًا؛ انكساراتٍ وانتصارات، ظلمةً وظلالًا، وومضاتٍ عنيدة من نور. كان عامًا مأساويًا على مستوى الروح البشريّة، وإنسانيًا على مستوى القِيَم التي أعادت صياغة علاقتنا بذواتنا وبالعالَم.
لم يكن سهلًا، غير أنّه — كعادته — ترك نافذةً صغيرةً مفتوحةً لمن شاء أن يلج منها إلى عالمٍ أوسع؛ نافذة تطلّ على الأعماق، على الذات قبل الخارج، وتطرح سؤال الوجود بإلحاحه المؤلم:
ماذا يعني أن نكون هنا، الآن، في هذا الزمن المتحوّل على نحوٍ حاد؟
وماذا نترك للأجيال القادمة كي تعرف حقيقتنا، لا صورتنا المصنوعة؟
كان هذا العام اختبارًا قاسيًا، لكنه في الوقت ذاته دعوة للعمل الخلّاق. دعوة للعودة إلى الكتب، لنفض الغبار عن أرشيف الذاكرة، لاستعادة قصصٍ وشخصياتٍ عبرت بين الأرض والسماء؛ بعضهم عاش بيننا، وبعضهم جاء أسطورة تحاول إنقاذ معنى الإنسان من محنة الزمان. وفي لحظاتٍ تتكاثر فيها الأسئلة، يبقى السؤال الأكبر معلّقًا:
من يكتب التاريخ اليوم؟
من يدوّن وجع الإنسان بلا تحريف؟
ومن يجرؤ على رواية ما نعيشه دون أن يُخفي الحقيقة خلف قوة غاشمة أو سلطة ضاغطة؟
نحن في غرفة 19 نسعى، من خلال مجلس إدارتها، إلى احتضان أصحاب الفكر والرؤى الجديدة غير المتكرّرة، لنشكّل إضافة حقيقية للمشهد الثقافي، ونقدّم مرجعية مختلفة، لا تلغي مرجعية المكتبات بل تنطلق منها. نؤمن بمساحة حرّة لا تُقصي صاحب فكر، ولا تُحجّم حلمًا، تجعل من الباحث إنسانًا يعي ذاته أولًا، ثم ينطلق لإعادة قراءة الأحداث من حوله.
ومن هنا، وبالرغم من أن غرفة 19 – سان دييغو، كاليفورنيا تنتهج سياسة اعتبرها البعض قيدًا، فإننا تبنّيناها لتكون مساحة أمان لا تولّد انشقاقًا ولا ضغينة، بل متنفسًا ثقافيًا جامعًا، نافذةً تتّسع كلما ضاق العالم، وتفتح بابًا للبحث الحرّ، وللحوار، وللوعي الذي لا يخشى السؤال. نجمع ولا نفرّق.
كان عام 2025 عامًا غنيًا لغرفة 19 ولمتابعيها، لا بعدد الأنشطة فحسب، بل بنوعية الأفكار التي طُرحت في ندواتها وملتقياتها الدولية، وبالتعاون مع جهات أكاديمية، ولقاءات امتدّت جغرافيًا وإنسانيًا. أصوات باحثين، شعراء، مؤرخين، وفلاسفة تبادلوا الرؤى عبر منصّتها، ليضعوا لبنة جديدة في بناء معرفي يتّسع للجميع. لقاءات شكّلت حجر زاوية يجد فيها الباحث وطالب العلم أساسًا يُشيّد عليه مستقبلًا واثقًا، قائمًا على الفكر لا على الصدفة، وعلى المعرفة لا على ردود الأفعال.
واليوم، في العدد التاسع عشر، تتجلّى المصادفة قدرًا يشبه الدلالة. فالرقم 19 ليس مجرّد رقم، بل اكتمال دورة، وبداية في قلب نهاية، وانعطاف معرفي باذخ مع كل إصدار. إن وصول المجلة إلى هذا العدد شهادة حيّة على أن الفكرة لا تموت ما دام هناك من يكتب ومن يقرأ.
في هذا العدد، نحمل بين صفحاتنا نتاج عقولٍ أصرّت أن تفكّر، أن تناقش، وأن تطرح الأسئلة الكبرى دون خشية. نصوص وأبحاث ودراسات تنتمي إلى روح البحث وإلى الإنسان قبل أي شيء. فمجلة غرفة 19 لا تكتفي بأن تكون منصّة للنشر، بل تسعى لأن تكون تراكمًا حضاريًا، وذاكرةً معرفية، وبيتًا للباحثين.
منذ ثلاث سنوات، بدأت غرفة 19 كحلمٍ صغير يتكوّن من حبّ الكلمة، وسرعان ما تحوّلت إلى فضاءٍ رحب تتلاقى فيه الأقلام والقلوب. بدأنا بالعدد الأول “بـ وليمة الحبر“، وها نحن نواصل معكم، منكم وإليكم، نزرع الجمال في حقول العتمة، ونؤمن أن الحرف الصادق قادر على تبديد ظلمة الجهل، وصناعة القوة من الضعف، والأغنية من الألم.
غرفة 19 ليست منبرًا ثقافيًا فحسب، بل مشروع وعيٍ وإنسانية. طرقنا أبواب الفكر فانفتحت نوافذ على آفاق أبعد من الجغرافيا، نحو الإنسان حيثما كان. أردنا أن نرفع خطيئة الجهل عن العيون المغلقة، وأن نعلن أن المعرفة طريق الخلاص، وأن الثقافة — في زمن الانقسامات — قوة ناعمة توحّد ولا تُقصي.
وأخيرًا، في زمنٍ تتسارع فيه العتمة، يبقى الحبر هو النور الأصدق. لنفتح النوافذ لا لنغلقها، ولنؤمن أن الثقافة هي المصالحة الكبرى بين الإنسان وذاته وبينه وبين الآخر.
كل الشكر والتقدير لكل من ساهم في كتابة العدد التاسع عشر. أهلًا بكم دائمًا، نبراسًا للوعي ونموذجًا يُحتذى.
هذا العدد نقدّمه بوصفه ثمرة عامٍ ثري بالأسئلة والوعي، ومساحة تتّسع لكل قارئ وباحث يحلم أن يكون لهذا العالم معنى.
غرفة 19
مساحة للفكر، وامتداد للإنسان، ووليمة حبر متجدّدة.
ما دام الحلم فينا… فالحياة بخير.