جميل حمادة
قال لي محمد.. بن لامين مرة اخرى
أحيانا كنت اعتقد أنني فارس حرب..وجسر كوارث وكتاب أحزان كبير، وموسوعة اغتراب شاسعة كسماء! لكنني اكتشفت أو ربما تبين لي بيني وبين نفسي؛! ان محمد بن لامين قد فاتني الى هناك.. إنه كل ذلك وأكثر؛ ربما؛ كان الصديق المثقف والمخرج المسرحي الكبير عبدالله هويدي يسميني “امير الصعاليك”؛ لقد كنت صعلوكا كبيرا؛ ربما؛ وقد لا يفيدني ان انكر ذلك، لكن كان دائما ثمة رقيب رادع.. يوجه دفة سفينة الحياة الشعرية..! محمد بن الامين صعلوك مختلف ايضا في الشعر وفي اللوحة.. انه يحول الحياة كلها؛ كل لحظة فيها الى لوحة مجسمة. وأخيرا؛ ربما قبل مايقرب من عشرين عاما قرر ان يفصح عن ذلك بالحرف لا باللون؛ وحسم أمره ان بعض الحقائق في سيرة الانا يجب ان يصيغها الحرف لأنها تلك الالوان لن تكون موازيا كفؤا رغم هالتها المشعة بكل ألوان الكون
في هذه القصائد السريعة “المحكمة” وفي لحظة استواء ونضج للفكرة؛ على صفيح وقت ما.. يبدي لنا بن الامين شعرية عالية تخلط جل صور الحياة في بوتقة لوحة لغوية هائلة؛ يفشي من خلالها عبر قصيدة النثر؛ ومظللا ذلك كله بخطوط سوريالية وتجريدية لا تقل غموضا ورمزية ووضوحا عن تجريدية العشاء الاخير.. هذه تقدمة متواضعة في فسحة صغيرة من الزمن لهذه القصائد التي تكشف شيئا من اسرار الحياة والزمن.. تلقيها كف شاعر يزعم انه ليس شاعرا
جميل حمادة
*****************
قال لي محمد بن لامين مرة
كل هذه اللغة عاجزة عن إعراب كائن ملقى من غيمة
■
أنا من فاقكم ضعفاً
وأنا الهزيل طريح فراش الكون
نهيد الروح فاقد الأنفاس
عديم الحول والقوة…
أنا الباكي على أعشاش الشجرة الأولى
وأنا الضاحك الأبدي
على همسات كذبة قديمة
جرتني إلى هذه الدنيا قابلة شبه أفريقية
وسلَّت قدميّ الرطبتين بصعوبة
من رحم أم منهكة
أنا البادي بلا بدو
واللائح بين شرارة صغيرة
وانطفاءة كبرى
من أين أجد لي عينين
ومن أين يأتي الهوى؟
صغير جدا أنا ولم ألحق بهذا العالم
وفاتني عشق كثير
وكل قصص الحب التي تمنيتها ذهبت
أدراج الحياة
وحيداً جدا وفي داخلي ألف وحدة أخرى
قصياً كما كان أويس
أرقب عوسج الصحراء
وأهيل الأتربة الحمراء على مذابح الأخوة
أنا من سماه الزمان سليل الهم
وابن المتاهة العظمى
أنا خليل الفقد
ونبتت لي منه حوافر ومخالب
وفي الليل تحرسني ضباع الفكرة
■
قال لي من سوء الزمان أن الحقيقة بائسة
والكذبة تضفي سعادة متلهف عليها
الناس لم تعد تتقبل الشخص الحزين
عليك أن تتدبر سعادة ما
وإن كانت مؤقتة
الحزن شيء يكدر الزمان
ويجعل الآخرين يضيقون بك
اذهب إلى الطرقات وارقص
قلت يا شيخي
لم أعد أطيق هذا الفرح الهش
وأنا أعرف نبع سعادتي
قال لي
لقد بلغت
■
لا يجيد سرد السيرة إلا الصديقين
___________
هامش//
* الشعراء يصورون النمل على أصابعهم
أفيال أفريقية كاسحة
* السياسيون يصرون على أن الوطن
جنّة مؤجلة
* الأدباء حيارى بين حسن اللفظ وفظاعة المعنى
* الرسامون لازالوا يمزجون اللون
ويحاكون شكل عصى موسى
* المثقفون يدافعون بشراسة تقنية
عن القضايا اليدوية النافقة
* وحدهم الذين غادروا التراب المداس
قد وجدوا ممرات آمنة أخرى
يمشونها بحذر وبلا أدنى ضجة
كنت بيَّاعا شقياً في أرضي
أعرف الفرق بين المليم وشهقة الروح
صاحبت الدراويش وعساكر سوسة
جبت البلاد وجابتني
مشيت وراء قطعان الماعز
وضربتني الشمس مرارا على رأسي
وكنت على الأغلب مذهوب شيرة
ولا أفرق بين البقر والكلاكس
ظلي صغير جداً
حتى أن النمل لا يقيل فيه
كلامي عابر
وقصيدتي سريعة العطب
أيامي مخبأة في جيب صغير
وروحي نافرة لا تستقر في شيء
أغرتني ساحرة الكون بشجرتها القديمة
وجاء الشيطان الأصيل
يدعوني للرقص على حافة سحيقة
كنت طفلاً من بلاد لا تنساها الشمس
وكانت أمي تزرع في رأسي
نخلة النبي
وأنا ذهبت بعيدا جداً
أبعد من الساحرة ومن الشيطان ومن أمي
نمت في مقابر الموتى
وغنيت في الأسواق
وشربت رحيق كل شيء
اليوم أواصل متاهتي حراً
ولا أزعم أني بجوار البئر
■
* واستهل يهيل تراب الأرض على كاهلي الهش
بعد أن أحسن ذبحتي وراكم أحجاراً حمراء صغيرة
ومن شدة هدوئه ورصانته دفن أصابع يدي اليمنى
وقد نفرت من بين الطين سبابتي تتجه إلى السماء
رش على جثتي قراح الماء وكأنني شتائل النعناع
لاحق أطراف قميصي الأزرق الخشنة وغاص بها
مستعينا بفيض الماء وعيدان العشب الجاف وبعض
من نتف قطع البلاستيك المهشمة.. لا ينسى أبداً بعد
حين وآخر أن يلتفت حذراً للجهات كلها إلا الزرقاء
أصابه التعب وكان يتصبب منه عرق الجهد لا الخوف
فتحسس في جيوبه وأخرج علبة سجائره وبيده المتربة
وضع لفافة التبغ في فمه وهو ينظر حوله ثم بقدرة قادر
أشعلها ومج منها شهقة عميقة فلمعت في عينيه بارقة
أمل وارتياح فسيح كأنه أنجز المرحلة الصعبة من المهمة
كان ضوء القمر يرسم على وجهه ملامح طيبة وأكيدة
كما أنه استطاع بجلد منقطع النظير أن يعيد صفحة الأرض
إلى سيرتها الأولى لدرجة أن كلاب القرية مرت بجانبي
دون أيّ شك أو ريبة.. من تحت الردم رأيته بعد أن ابتعد
يلتفت إلى القبر الذي خصني به وينفض يديه من تربتي العطرة