
بقلم: عادل النعمي
أنا لا أبدأ حكايتي من الضوء، بل من الظلمة نفسها… فالظلام لا يخيفني، لأني ولدت فيه، وعشت به، حتى أصبحت الخوف ذاته.
منذ بلغت الستين، أصبحت الحقيقة وحدها صديقتي، لذلك سأتحدث كما لو أنني أقف على خشبة مسرح ـ أكسر الجدار الرابع ـ وأحدق مباشرة في أعينكم، لست ممثلاً، لكن حياتي كانت مسرحاً طويلاً، وأنا كنت بطله الشرير.
أمي تركت أبي من أجل عشيقها، لم أعرف ذلك حين كنت صغيراً، ولم أعرف أنني ابن ذلك العشيق إلا بعد سنوات طويلة… تلك اللحظة كانت أول خنجر استقر في صدري، ومنذ ذلك الوقت، صارت النساء بالنسبة لي لغزاً مزدوجاً: أحبهن حتى الاحتراق، وأكرههن حتى الجذر، وفي مراهقتي لم يكن لي أي نصيب من الجاذبية. كنت نحيفاً، خجولاً، تائهاً بين وجهي: الولد الشرعي لمن؟ حتى خادمة الجيران لم تلتفت إلي! كان ذلك الإهمال بذرة حقد مكثّف.
قررت آنذاك أن أُعيد تكوين نفسي… صنعت جسداً يشبه تمثالاً، عضلة فوق عضلة، وكاريزما محسوبة النبرة والحركة… الأهم هو المكانة، لذلك اخترت الطب، ليس حباً بالعلم، بل كخطة استراتيجية ـ الطبيب لا يُشك فيه ـ الطبيب يدخل البيوت والقلوب دون استئذان… الطبيب، ببساطة صيّاد يرتدي معطف ملاك.
لكن ميزتي الحقيقية لم تكن الجسد ولا المهنة… كانت قدرتي على ملاحظة الفراغ العاطفي… هذا الفراغ هو الممر الذي أدخل منه. الفريسة الأسهل دائماً ليست المرأة الناقصة أخلاقاً كما يظن الحمقى، بل تلك التي المتزوجة التي ليست لديها مشكلات كل ما في الأمر أنها قد أرهقها الدور الاجتماعي… المرأة التي فقدت هويتها تدريجياً في زحمة الواجبات… تلك التي لم تعد تُرى كأنثى، بل كوظيفة من وظائف البيت.
تعلمت علم النفس خصيصاً لأعرف كيف أصطاد… أعرف كيف أقدم الطُعم المناسب، وكيف أضبط المسافة، وكيف أترك الفريسة تقترب من تلقاء نفسها… لا أهاجم مباشرة… بل أنتظر… خطتي الأساسية كانت دائماً: الصبر، والصبر، والصبر.
في العمل المختلط كنت أميز النساء من خطواتهن ونبرة صوتهن: الطبيبة الجادة التي تركّز على ملفّاتها أكثر من تركيزها على مشاعرها… الموظفة التي لا تفارق هاتفها لأنها تهرب من ملل بيتها .. المرأة التي تتحدث بحماسة مبالغ فيها عن أي إنجاز بسيط، لأني أعرف أن أحداً لا يقدّرها في حياتها الخاصة.
حين أعثر على واحدة منهن، أبدأ بالاقتراب الخفيف… خدمة صغيرة… كلمة إطراء ليست سطحية، بل مُصاغة من قلب معرفتي بالفراغ الذي تخفيه.
أكون دائماً بالقرب من دون أن أشكل تهديداً… أترك لها شعوراً بأن وجودي طبيعي، وأنني مجرد زميل لطيف… ومع الوقت تتآكل الحدود… خطوة بعد خطوة… حتى تصبح قريبة بما يكفي دون أن تدري أنها تقترب.
أنا لا أغازل في البداية… الغزل يوقظ دفاعاتها… أنا أجعلها تشعر بأنها مرئية… وهذا وحده كافٍ ليحرك قلب امرأة، مهما كانت ملتزمة دينياً أو اجتماعياً.
المرأة لا تبحث عن رجل آخر… بل عن نسخة قديمة من نفسها ماتت تحت عبء الزواج والأمومة.
حين تبدأ هي بالحديث، أستمع جيداً… من القصص الهامشية أعرف كل شيء: طفولتها، عقدها، ما تخفيه عن زوجها، وما تتمنى لو أن الحياة منحته لها… المهم بالنسبة لي دائماً هو الفراغ العاطفي العميق الذي لا تعلنه (هذا هو الباب).
أعيد صياغة وجودها كما لو أنها في أول زواجها: محادثات ليلية طويلة، اهتمام حقيقي، إحساس بأنها مرغوبة، نظرات مسروقة تفتح في قلبها نافذة ضائعة… أُرجعها إلى أول سطر في دفتر الحب… إلى جنون الصبا… أُعيد إليها أنوثتها التي ظنت أنها تآكلت.
لا أختار المرأة التي تشكو زواجاً بائساً، هؤلاء يجلبن الصداع والمرض والشيخوخة وربما الجنون، هن يبحثن عن منقذ، وأنا لست منقذاً لأحد.
أنا أختار تلك التي تعيش زواجاً عادياً، بين الرتابة والاعتياد… هذه هي الفريسة المثالية: قوية من الخارج، متعبة من الداخل.
أعرف جيداً أن النساء لا يتحركن بدافع الخيانة، بل بدافع الحاجة… الحاجة لأن يشعرن بأنهن يُختَرن… الرجل يحتاج الاحترام… المرأة تحتاج التقدير! وإن غاب التقدير، فإن عقلها يبدأ تلقائياً بالبحث عنه في أماكن أخرى.
هنا يبدأ الجزء الأخطر: “نظرية العتبة” أصعب خطوة هي الأولى… أول رسالة لا يجب أن تُرسل… أول لقاء “بريء”… أول مرة لا تسحب يدها سريعاً من يدي… بعدها يصبح كل شيء أسهل.
أنا أكرر أفعالاً صغيرة جداً، حتى تصبح عادة… أربط وجودي عندها بدفق لطيف من الدوبامين، حتى يتحول حضوري إلى نوع من الإدمان.
الإدمان ليس علىّ أنا، بل على النسخة التي تصيرها حين تكون معي: فتاة موسيقية الروح، صاخبة، حرة، لا تحدها الأدوار ولا الأعراف… مع الوقت تبدأ بتجميل ما يحدث بيننا. تقول لنفسها: “إنه مجرد اهتمام… مجرد صديق… نحن فقط نتحدث”.
هذا هو التنافر المعرفي، حين تحرف واقعها لتحمي نفسها من الذنب. وكلما زادت مبرراتها، زادت خطواتها نحوي دون أن تشعر.
ثم يأتي التحول الكبير حين تشاركني أسرارها… تلك اللحظة أعرف أنها أصبحت على الضفة الأخرى… فالخيانة الحقيقية ليست جسداً، بل حين تحتفظ المرأة بسر صغير عن زوجها لصالح رجل آخر.
وحين تستيقظ ضمائرهن، يهربن فجأة… تختفي الرسائل… تُغلق الأبواب… لا أركض خلفهن في هذا القوت أعرف أن العلاقة قد قويت جداً, لأنها ستعود ولكن عودتها ستكون أكثر قناعة وجموحاً.
أعرف أن أول مشكلة بينها وبين زوجها ستعيدها إلي… أو حتى لحظة اشتياق صغيرة. فهن لا يشتقن إليّ أنا فقط، بل إلى الحياة التي عشنها معي… إلى الشعور بأنهن مرئيات، مرغوبات، ممتلكات للحظة لا يمكن شرحها.
وأعلم يقيناً: حين تعطي المرأة عقلها لرجل، فقد أعطته كل شيء… الخيانة تبدأ في الفكر، لا في الجسد.
هذه قصتي. وهذه ظلمات النساء اللواتي عبرن دربي.
ولمّا لم أعد أخاف الظلام، سأواصل الحكاية… لأن ما حدث بعد ذلك كان أعمق، وأشد خطراً، وأقرب إلى هاوية لم أكن أعرف أنني أقف عند حافتها.
أكتب الآن: وأنا أعرف حقيقتي كاملة… أعرف أني من ذلك الحطب الذي يُلقى في جهنم، ولم أدخلها بعد.
بداخلي تراكمت كل الظلمات التي تحدث عنها الواعظ القديم: كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وجرأة النمرود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، ولؤم هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل.
أحياناً أشعر أني ملعون أكثر من إبليس نفسه… ومع ذلك، ما زلت أتنفس، وأكتب، وأرتكب ما أعرف تماماً أنه الشر ذاته.
كتبت هذه المذكرة لأن هناك امرأة شابة دخلت حياتي فجأة، ليس بعلاقة، بل بخبر كان صاعقاً علي… كنت أراقبها في مقهى هادئ، أتابع لغة ملامحها كما يتابع الصياد اضطراب عصفور على غصن.
كانت سعيدة بسطح الحياة: ثلاثة أطفال يحومون حولها مثل أفراخ مدللة، وزوج يبدو عفوياً بسيطاً، يضحك دون أن يقرأ ما يتسلل تحت جلدها.
كل شيء حولها يوحي ببيت مستقر، لكنه الاستقرار الذي يشبه الهدوء الذي يسبق انهياراً صغيراً… فنظراتها، آه من نظراتها… كنت أقرأ فيها رغبات كثيرة ومدفونة، رغبات لا تخطئها عين خبيرة مثلي.
في لحظة لاحقتُ اتجاه بصرها فرأيتها تحدق بإعجاب شديد إلى رجل وسيم مرّ بجانب طاولتها، وكادت من حماقتها تلك، أن تمنحه فرصة يغازلها أمام زوجها.
وفي موقف آخر، تأملت سيارة فارهة توقفت أمام المقهى، وحين نزل منها صاحبها السمين لمحْت في عينيها نظرة تقول بوضوح لا بأس به… هذا النوع من العيون أعرفه جيداً… إنه ليس فضولاً، بل استعداد داخلي… خطوة أولى تنتظر من يجرّها, ولن تكتفي بعلاقة برجل واحد، فما يعجبها هو موزع داخل رجالا عدة، مال فاحش، ووسامة مهيبة، وقوة جسدية.
كنت أراقبها من بعيد بثقة الخبير. مصادفات بسيطة، ولكنها كافية لتكشف لي طبيعتها، ومع ذلك، لم أكن أعرف أن القدر يخبئ لي ضربة أشد قسوة، فقد علمت قبل أيام فقط من أمها نفسها، والتي كانت قبل سنوات إحدى عشيقاتي، أن هذه الشابة ابنتي… هكذا ببساطة! يا لعجائب هذه الحياة: ابن الحرام أنجب ابنة حرام، أشعر أحياناً أن الدنيا تكتب لي نصوصاً ساخرة، وأنني لست سوى شخصية تُقاد إلى نهايتها شاءت أم أبت.
بعد هذا الخبر تسللت إلي مشاعر غريبة لا تشبهني… مشاعر سماوية، كأنها وحي لا يمت لطبعي ولا لعالمي بصلة.
شيئاً لم أعرفه من قبل ـ ربما شفقة ـ ربما خوف، وربما آخر ذرة إنسانية كانت تختبئ داخلي منذ الطفولة.
لذلك كتبت هذه المذكرة: ليست اعترافاً، بل وصية ـ وصيتي لها ـ لأخبرها ببداية الشر ونهايته… لأضع أمامها الطريقين كما رأيتهما: طريق العاهرة التي تبيع نفسها مرة بعد مرة دون أن تشعر أنها تفقد روحها، أو حياة مجيدة تنجو بها من مصيري.
فأبوها، هذا الداعر الذي يكتب إليها الآن، سعيد بطريقته الخاصة، لكن سعادته مثل دخان يتلاشى بسرعة ـ هو وحيد جداً، وحيد بشدة، وحدة تتآكل منها روحه, وحدة أكثر مما يفهمها البشر.
أنا رجل يقضي حياته في المقاهي والفنادق، يراقب الناس ويحاول افتعال حديث مع أي وجه جديد، لكنه اليوم أصبح غريباً حتى في الأماكن التي اعتادها، فالناس تنفر من رجل في مثل عمره، يتسكع بين أعمار أصغر منه بكثير، كأنه يبحث عن زمن ضاع ولن يعود.
هذه المذكرة ستصلها.. أعرف أن ما فيها ثقيلاً، وحتماً ستكرهني وتكره نفسها، لكني أكتبها لكي لا تصحب عاهرة مثل أبوها الداعر… اكتبها لأني لا أريد لعينيها أن تصبح مرآة لعيني، ولا لخطواتها أن تعيد خطايا عمري… أنا إذا كانت الحياة قد جعلتني باباً للظلام، فربما تكون هي أول من يغلقه إلى الأبد.