د. حسن مدن
كان المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه في العشرينات من عمره حين ذهب إلى أمريكا اللاتينية، إلى بوليفيا تحديداً، لينخرط في حرب العصابات هناك ضد الحكم العسكري متأثراً بأفكار ودعوات تشي غيفارا . كان ذلك منسجماً مع الميول السائدة في الفترة الزمنية، بين منتصف ونهاية ستينات القرن الماضي، وكذلك مع عنفوان وسمات عمره اليافع حينها
لكن سرعان ما ألقي القبض عليه وأودع السجن هناك سنوات عدة، حيث كتب مذكراته التي اختار لها العنوان اللافت: “مذكرات برجوازي صغير”، وهو عنوان يشي بشيء من التهكم والسخرية
وتحت ضغط حملة دولية واسعة لإطلاق سراحه، أفرج عنه وعاد إلى فرنسا . لكنه لم يعد ذلك الثوري المأخوذ بحماس الشباب، فآثر أن ينصرف إلى العمل الفكري والفلسفي، كونه في الأساس خريج كلية الفلسفة، وفي فترة من الفترات اختاره الرئيس الفرنسي الأسبق، الاشتراكي فرانسوا ميتران، مستشاراً ثقافياً له
ورغم أنه لم يعد واثقاً بإمكانية تغيير العالم، كما حلم في شبابه، وبات ميالاً للاكتفاء بمحاولة فهم هذا العالم أو تفسيره، فإن دوبريه لم يتخل عن حسه النقدي، فهو إذ يحلل آليات العولمة يرى أن العالم يزداد تشرذماً بازدياد وتائر توحيده، وأن ما يوصف بالقرية الكونية الصغيرة والجامعة هو حيز أمريكي في الجوهر، مما يجعل المجتمعات الأخرى التي تشعر بسلب هوياتها تنزع إلى الركون إلى هوياتها المحلية الغائرة في عمق ماضيها
انشغل دوبريه بتعريف من يكون المثقف، الذي هو برأيه ذلك الشخص الذي يريد أن يمارس تأثيراً في الغير من خلال إنتاج سلسلة من الرموز، من النصوص، ومن الكتب . وحين يقارن بين تجربته وهو شاب في أمريكا اللاتينية وتجربته اللاحقة في فرنسا، لاحظ أن العملية السياسية داخل فرنسا أقل حيوية مما هي عليه في أمريكا اللاتينية، وهذا قاده للتفكر في أمر هذا التفاوت داخل لحظة تاريخية واحدة في زمننا المعاصر
وللإجابة عن ذلك ذهب أبعد في قراءة تاريخ فرنسا، ملاحظاً أن ثورتها ولدت من بطون الكتب، أي أنها ولدت من حركة فلسفية، مما يسلط الضوء على دور الفئة المثقفة، وما المقصود بها، ليخلص إلى أن الكلمات، الأفكار والعقائد هي عدة المثقف، الذي هو شخص منظم للأفكار، مما يجعل من مساءلة المثقف مساءلة سياسية، وهذه الأخيرة هي بدورها مساءلة ثقافية، لا يستوى فصل وجهيهما عن الآخر