
منذ أن خطّ الإنسان أولى الحكايات على جدران الكهوف، كانت القصة القصيرة هي الوعاء المصفى لالتقاط شرارة الوجود، تلك التي تومض وتختفي، لا كوميض عابر، بل ككثافة سردية مكثفة، تُلخص التجربة البشرية في أقل عدد ممكن من الكلمات وأكثر قدر ممكن من الدهشة. إنها جنين الحكاية ومختبر الروح، وشرفة صغيرة يطل منها الأدب على الكون الواسع، بكل ما فيه من تشظٍ وحنين وخراب. غير أنّ هذا الفن الذي تشكّل في حضن الإنسان، صار اليوم يواجه شريكاً جديداً في العملية الإبداعية: الذكاء الاصطناعي
إن حضور الذكاء الاصطناعي في الحقل السردي ليس حضوراً تقنياً محضاً، بل هو حضور فلسفي وجمالي يعيد طرح سؤال عتيق بحلة معاصرة: ما الإبداع؟ ومن هو المبدع؟ وهل يمكن للآلة أن تحاكي تعقيد النفس البشرية في لحظة السرد القصير، حيث التكثيف لا يغدو تقنية بل جوهراً، وحيث المفارقة ليست لعبة بل كشفاً يلامس أقصى درجات الوعي واللاوعي معاً؟
إن الذكاء الاصطناعي، وهو يقتحم مجال القصة القصيرة، يفعل ذلك من خلال نماذج لغوية قادرة على تحليل بنية القصة، والتعرّف إلى أنماطها، بل و”توليد” نصوص قصصية تُحاكي البنية التقليدية لهذا الفن. غير أن هذه المحاكاة، مهما بلغت من إتقان ظاهري، تظل محكومة بسقف بنيوي، إذ يعوزها ما لا يُعلّم ولا يُبرمج: الألم الإنساني، الشك الوجودي، حدّة السؤال، وخفوت الأمل. إن القصة القصيرة، في أبهى تجلياتها، ليست استيفاءً لشرط بنائي، بل اختراقٌ للحظة، انحرافٌ دقيق عن المألوف، وتجسيدٌ لكثافة التجربة في صورة رمزية أو حسية تنبض بما لا يمكن ترجمته إلى رموز حسابية، ومع ذلك، لا يمكن إنكار الطفرة النوعية التي أتاحها الذكاء الاصطناعي في أدوات الكتّاب المعاصرين. لقد بات في مقدور القاصّ أن يستخدم هذه الأدوات لا كبديل عن تجربته، بل كمختبر سردي يوسع به فضاء الاحتمال، ويختبر عبره صيغاً جديدة للتعبير، أو يحاكي سرديات مغايرة ليهدمها لاحقاً ويعيد بناءها على ضوء رؤيته الخاصة.
الذكاء الاصطناعي هنا لا يكون كاتباً بقدر ما هو شريك في زلزلة البنية وإثارة الأسئلة، وهو ما قد يُفضي إلى تجديد القصة القصيرة ذاتها بوصفها جنساً أدبياً لا يني يتقاطع مع سائر الأنواع، ويتجاوز ذاته باستمرار العلاقة بين القصة القصيرة والذكاء الاصطناعي هي إذاً علاقة توتر خلّاق: الآلة تُبدع بلا معاناة، والإنسان يُبدع من خلال المعاناة؛ الآلة تستند إلى تراكم إحصائي، والإنسان يستند إلى نبوءة داخلية، إلى ذلك الخيط الواهن الذي يربطه بمجهول غامض لا يمكن قياسه أو نمذجته. ومع ذلك، فإن التفاعل بين الطرفين قد ينتج شكلاً فنياً هجيناً، تتلاقى فيه خفة الآلة مع ثقل التجربة الإنسانية، ويولد نصّ جديد، لا هو تقليدي ولا هو آلي، بل هو ضرب من الأدب ما بعد الإنساني، حيث الإنسان يعيد تشكيل ذاته عبر الآخر الرقمي
ثمّة مفارقة عميقة تلوح هنا: إن القصة القصيرة، بوصفها فناً مضاداً للثرثرة والامتداد المفرط، هي أكثر الأجناس الأدبية قدرة على التفاعل مع منطق الذكاء الاصطناعي، وأشدها حساسية تجاه انزلاقاته. فحين يكتب الإنسان قصة قصيرة، فهو لا يسرد حدثاً فحسب، بل يُكثّف منظومة كاملة من الإحساس والتاريخ والهوية في بضعة أسطر. أما حين يكتب الذكاء الاصطناعي قصة قصيرة، فإنه يستعير هيئة البناء دون أن يبلغ جوهر الارتجاف الداخلي. إن النص الناتج، مهما بلغ من الإحكام البنيوي، يظل خالياً من نبرة التورط، تلك التي تصدر عن كائن يعرف أنه فانٍ، ويكتب ليؤجل فنائه.
القصة القصيرة في عصر الذكاء الاصطناعي، إذن، لم تفقد جوهرها، لكنها وجدت نفسها أمام مرآة جديدة، مرآة تُظهر ملامحها وتشوّهها في آن، وتدفعها إلى إعادة التفكير في طبيعتها، وفي مكانة الكاتب، وفي معنى الإبداع ذاته. قد لا يكون الذكاء الاصطناعي قادراً على كتابة قصة تهز وجدان القارئ كما تفعل نصوص تشيخوف أو كافكا، لكنه يدفعنا، من حيث لا يدري، إلى التساؤل: ما الذي يجعل القصة القصيرة فناً إنسانياً بامتياز؟ أهو التكثيف؟ أم الألم؟ أم السخرية؟ أم المفارقة؟ أم ذلك الإحساس العابر الذي يتسلل من بين الكلمات كظلّ لا يمكن القبض عليه؟ في هذا المنعطف التقني، تصبح القصة القصيرة امتحاناً حقيقياً لفرادتنا البشرية، واختباراً لحدود ما يمكن للآلة أن تبلغه من فهم للذات. إنها تذكّرنا بأن الإبداع ليس في الشكل، بل في البوح، وأن القصة حين تُروى حقّاً، لا تُكتب لتُقرأ، بل لتُعاد قراءتها في الروح، هناك حيث لا تصل الخوارزميات.