
قصي البسطامي المسكيني.
كاتب وروائي ليبي.
يمكن القول في بادئ الأمر أن اللّغة بشكل عام هي الهدية الميتافيزيقية التي أتتنا من السماء، لم يتم تحديد زمن ولادة اللغة إلى الآن، ذلك ما يجعل البُحّاث في مجال اللّغة واللِّسانيات تحديدًا في حالة قلق مستمر حول المصدر المادي الذي بدأ منه تكوين اللغة.
“في البدء كانت الكلمة”، لكن من أين تأتي الكلمة؟ أين هو المصدر؟ لم تتفق نتائج البحث في الحقل اللغوي على مصدر موحد، وبالتالي فإن غياب المصدر يُحيل إلى أن اللّغة لها ارتباط عميق بالإنسان دون غيره، إن الشيء الوحيد الذي لم يستطع العلم تحديد نهايته هما اللغة والموت، هذا ما يجعل العلم غير قادرٍ على تفسير كلتا الظاهرتين ليرجعهما لمصدر مادي ملموس، فالعلم يحتاج إلى المادة، وأي مصدر ميتافيزيقي يعتبر ضربا من الهرطقة والعجز عن الوصول إلى الحقيقة.
على سبيل المثال نجد أن ظاهرة موت الكائنات وفنائها لا تستند إلى عامل مادي يُثبت وجود خلية مسؤولة عن الموت، كذلك بالنسبة إلى اللغة لو اعتبرنا أنهما العلتان اللتان تقفان حجر عثرة أمام هيمنة العلم.
كنت دائما ما أطرح سؤالاً على نفسي منذ ولادة الذكاء الاصطناعي، هل بإمكانه فعليًّا أن يغزو جميع المجالات التي يرتادها الإنسان؟ هل نحن في صدد الدّخول في صراع مع الذكاء؟ أولم يسبق أن كانت صناعة الآلة البخارية سببا في زيادة نسبة البطالة واستغناء الطبقة البرجوازية عن الحاجة الماسة إلى اليد العاملة؟
لم تُسبب صناعة الآلة في إقصاء اليد العاملة عن العمل، بل كانت بأمس الحاجة إلى يد عاملة ذكية ماهرة تقوم بتشغيلها. كذلك نقيس على تدجين الحيوانات واستخدامها في الزراعة. لكن ولادة الذّكاء الاصطناعي كان بمثابة زلزال مدوٍّ أذهل الإنسان نفسه الذي اخترعه وأشرف على تطويره، لقد اقتحم الذكاء كل المجالات تقريبًا، وبات بوسع كثيري التشائم أن يحددوا نهاية التاريخ كما حددها فوكوياما في كتابه، وكما عبر رولان عن موت الكاتب، وغوستاف عن موت المسرح والرسم، وغيرها من صيرورات موت متتالية، لم يكن المتشائمون على حق في استقرائهم للمستقبل البشري!
هل مات المسرح؟ هل مات الرَّسم؟ هل مات الكاتب؟ يستطيع الذكاء إعطاءنا نصًا إبداعيًا بِناءً على قاعدةِ بيانات كبيرة يستحضر بها نصوصًا لكُتّاب في الرواية والقصة والشعر، ثم يُجري عملية خوارزمية معقدة ليُركب نصًّا احترافيًّا مُدّعيا أنه هو من أنتجه، لكن في سياق آخر إن إنتاج نص إبداعي لا يعتمد بالمطلق على قاعدة بيانات بالقدر الذي يرتكز فيه النص على الحالة الوجدانية للإنسان، إن الإبداع الفني بالمجمل هو التعبير الأسمى عن الإحساس، عن الشعور، عن العاطفة، عن التجربة، عن الذاكرة، إن النص ينتج من خلال تفاعل واحتكاك الإنسان بالوجود، حالة الحب التي يكتب عنها الشاعر لحبيبته ترتبط يقينيا بعلاقته الصادقة مع محبوبته، تعبيره عن السعادة عن الفرح عن الحزن عن أي شيء يُلامسه، تفتح اللغة أبوابها للذات الإنسانية حتى تجسد الحالة العاطفية للكاتب، أما عن الذكاء الاصطناعي فهو عكس ذلك تماما، إن نصوصه باردة لا تجسد حقيقة التجربة كما هي عند الإنسان، ولو بلغ الذكاء من القدرة على صناعة نص إبداعي في غاية الجمال.
لا يزال الذكاء يفتقر إلى التجربة الحية، فاللغة هي أورغانون المشاعر والعواطف، من لا يملك العاطفة لا يملك قلما، فأي عاطفة في الذكاء غير معادلات خوارزمية وقاعدة بيانات كبيرة تعينه على التركيب النحوي للجمل!
البيانات كمصدر لا يمكن أن تكون بديلا عن التجربة الحسِّية، كما أن معيار الصدق والكذب يمكن أن نحدده كمرجع أساسي للتفريق بين الكاتب الحقيقي الذي ينتج النص – دون الحاجة إلى الذكاء – وبين الكاتب المزيف الذي يستعين بالذكاء مدعيا امتهانه مهنة الكتابة، إن النصوص الركيكة أو الضعيفة في البناء السردي أعتبرها أنا دلالة مُهمّة جدًّا على مِصداقية الكاتب، في زمن بات الذكاء فيه قادرًا على صناعة نص جمالي يفتقد إلى معيار الصدق والنزاهة.
من جهة أخرى نجد أن الأجيال الجديدة من الكُتاب مقبلين على مرحلة من التاريخ وهي الاستعانة بالنصوص التي ينتجها الذكاء والادعاء بأنهم هم من كتبوها، هناك نوع من الخجل والادعاء المزيف يجعل الكاتب لا يفصح عن ما استعان به من مصادر، لكن نيابة عنهم أقول: أعتبر هذا حقا لكل كاتب، إن كان يريد أن يفصح عن استعماله الذكاء الاصطناعي أو لا يريد، فالأمر يعود للكاتب وحده. ولو تأملنا في حالة الكاتب قبل صدور الذكاء الاصطناعي نجده لا يزال يستعين بمؤثرات أخرى تعينه على الكتابة، مصادر…. مراجع…. نصوص مقتطعة من كُتّاب آخرين، أما الآن فصار يتعامل معه بوصفه منتج للنص لا بوصفه قاعدة بيانات كبيرة يركب النص تركيبا بناءً عليها، السؤال لماذا لم يفصح الكاتب عن استعانته بمصادر أو نصوص أخذها وعدلها ثم أضاف عليها من نص أصلي لكاتب آخر؟ هنا أيضا سؤال يجب أن يُطرح في ضوء معاملاته السرية أو مصادره كمرجعية حتى أني طرحت سؤالا على نفسي مرة، هل يمكن أن نُعيد النظر في مسألة السرقات الأدبية وإعادة التفكير في مسألة الملكية الفكرية؟ ذلك أن الأمر قد أحدث التباسا رهيبا بين من يتأثر بكاتب آخر ويقلد أسلوبه وبين من يسرق النص كاملا، أو يكون بسبب توارد خواطر متشابهة، إلى جانب هذا الالتباس يطرح كمقاربة علمية بين الأساليب القديمة في التأثير على الكاتب، وبين تأثير الذكاء على الكاتب.
بالنسبة إلى الأدب كمجال مفتوح للحركة الإبداعية أرى أن ُيُعلن التحالف الكامل مع الفلسفة، فالذكاء لا يزال عاجزا عن إنتاج نص فلسفي إذ إن تحدي الفيلسوف الفرنسي للذكاء في إنتاج نص فلسفي لكل منهما في مسابقة قد جرت بينهما حول مفهوم السعادة، قد أثبت نقطة ضعف كبيرة للذكاء الاصطناعي الذي استعان بأقوال فلاسفة بدلًا من أن يكتب هذا الذكاء الاصطناعي عن تجربته الحسية. لو كانت الرؤى الفلسفية لكل كاتب، ستضفي عليه طابعا خاصا في طريقة سرده ورؤيته للعالم. أنا أعلن هنا طريقة سرد تُجنب الكاتب الوقوع في فخ استنساخ أسلوبه لدى الآلة.
بصراحة أكبر، إن النصوص التي يكتبها الكاتب نستشعر وجودها حتى وإن كانت ركيكة، الركاكة في بعض النصوص عند الكتّاب ستكون بِمثابة بصمة إثبات على فعل الكتابة لا زيف فيها، المسألة لا تتعلق بالتكرار، فحتى الكاتب كإنسان يكرر وأحيانا يكون مملا وركيكا، وهذه ليست حجة للتفريق بين الذكاء الاصطناعي ككتلة معرفية رياضية جامدة والكاتب بوصفه كينونة للوجود، نحن الآن أمام مرحلة من التاريخ ستكون مفصلية جدا، ليس بالضرورة أن تكون أسوأ، بل ربما تكون أفضل، القارئ هو المستفيد الأكبر لا الكاتب، القارئ هو من يستطيع التمييز بين ما إذا كان الكاتب قد كتب هذه النصوص أم لا، لن تكون هناك أي إمكانية للكاتب للتحايل على ذائقة القارئ، كل تلك التقنيات السردية المعقدة جدا والتي كان الكاتب يتعالى بها على القارئ ستكون سخيفة في مرحلة أصبحت المعرفة فيها أداة لتحديد القيمة، لا زلتُ أقول ومصرٌّ على قولي، لم يبق أمام العلم الحديث بكل هيمنته وأدواته الصناعية إلا اثنان: الموت كما قال فتحي المسكيني الفيلسوف التونسي، واللغة كما أضفتها أنا. إنهما يشكلان ثنائية ميتافيزيقية أبقت على الإنسان كإنسان يحمل جانبا آخر، جانب الروح كعلة ضرورية للتمسك بأغصان السماء.