يوسف طراد المصدر النهار
لاذ جبور الدويهي بدون أرق، إلى عناق الحبر المتمرّد من كلّ قيد وسور، خارج السماوات والتاريخ، حاملاً ذاك الوحي الأنيق المسكوب في سطور رواية “ملك الهند” الصادرة عن “دار الساقي”
كاتب استفزّ خلايا الوعي الإنساني، وشجّعه على مقاربة ومقارعة كلّ الأفكار المتناقضة، من أجل الوصول إلى حقيقة وطنٍ وجريمة واغتراب
ضمّن جبور الدويهي السرد كثيراً من الانفعال اللحظويّ، والإحساس الخطأ بالانتصار الكلّي، من خلال الوهم الذي سكن أشخاص الرواية. كذلك بدا في الرواية خطوطٌ جوهرية، ومنها الوعي بمنهج العقلانية، بعيداً عن تهويمات تدعو إلى الرحيل عبر عباب “البحر العريق”
وإن كان النقد قد تناول الرواية، وكُتب فيها بمقدار يزيد على نقاط حروفها، فالقارئ إن يقرأ التقريظ الهادر سيلاً من حبر النقّاد في المواقع الإلكترونية المتعدّدة، ولا يقرأ الرواية، يبقَ في طلاسم الصورة المتهالكة، المرسومة بالعنوان الذي لا يمتّ إلى المضمون بصلة. لذلك منح جبور الدويهي القارئ خيطاً رفيعاً لكنه متين، كي يشدّه جاذباً السطور والمعاني بتأنٍ، سطراً سطراً، ومعنىً معنى، من أجل جلاء ما هو غامض في الرسالة بين العنوان وأحداث السطور. إلى أن اقتحم فجأة تركيز القارئ وصمت الكلام، عن ماهية العنوَنة، ودخل بتفسير معلّل، يدعو الغائص بين السطور من خلاله إلى متابعة القراءة، مركزاً على المضمون فقط، إذ قال، على عنوان لوحة “عازف الكمان الأزرق”: “إنّ العنوان يجب ألّا يختزل العمل، العمل يختزل نفسه ولا حاجة إلى التكرار” (هكذا وردت بالأصل). فعازف الكمان الأزرق في اللوحة المسروقة، اسم يوحي بأفق النظر إلى اللوحة لا إلى اسم اللوحة التي حوَت بقعةً صغيرة زرقاء. فهل ينسحب هذا السرد على عنوان هذه الرواية، كما اللوحة المنوّه بها ضمن الكتاب
مع كلّ فصل من فصول الرواية، دخل الكاتب في حوار بين الهامش والمركز، ولم يكتب من أجل المتعة الخالصة. لأنّ القضايا التي كتب عنها تستحقّ الكتابة، فقد انحاز إلى الالتزام بوصل التاريخ الذي لم يتّفق على كتابته اللبنانيّون حتى الآن، ما جعل القارئ يكمل المسكوت عنه، وخاصّة إذا كان قد عايش تاريخ لبنان الحديث وحربه التي سُمّيت أهلية، ورسخت في ذهنه أخبار الحروب الكونية من الأسلاف. فالكتاب كتاب القارئ، لا كتاب الراوي الذي سطا على ملعب القرّاء. فالشخصيات المذكورة في الرواية لا تعدّ شيئاً مقارنةً بالهوية التي جسّدها الراوي مكاناً وزماناً، فثمة إمكانية لعدّ القارئ، الذي أصبح لديه نفحة نوستالجيا من خلال السرد، شخصيّة داخل الرواية
أن تحيا في جغرافيا وطن الأرز، هو بحدّ ذاته نعمة جميلة. غير أنّ الحياة خارج هذه الجغرافيا الرائعة، في أوطان تشدّك بجهد كبير للخروج من شرنقة الحنين، تجعلك تستبيح القوانين، التي تؤمّن ديمومة الإنسانية في تلك الأوطان، وتحلم بالعودة، لترقد مع العدالة الضائعة، في بلد المتاهة الفكرية التي تتعارض مع فكرة الوطن الرسالة، “لكن رجحت لديه في النهاية فكرة أن يرقد هنا بين أقاربه وأهل بلدته حيث يطلّ على بحرٍ صغير لكن عريق”
وقف العشب على حدود القبور، حائراً في قدسية الأبوّة، التي تشعّ جنائن حبّ وأمان وصلاة، فقد حضن زكريا بطل القصّة ابنته في حياتها ومماتها. تلك الابنة التي حصدها الإرهاب في بلاد العمّ سام، وارتحلت رماداً داخل قنينة، ورقدت أمنية مع حنان روح الوالد المتورّد الذي لم يكترث لرحيل أمّ، وكان عناقه لابنته حتى في القبر تعويضاً عن حنان أمومة غادر بدون مبالاة
نقل الدويهي المجتمع مع ما يحويه من شوائب ونوائب إلى السطور، من خلال عرضه المسهب للتحقيق ومجرياته، لكشف غموض موت بطل الرواية. فقد أحدث فساد رجال الأمن، مترافقاً مع نداء الدم، هوّة كبيرة في حقل التحقيق. كما جعلنا نتوق إلى طريق للخلاص والخروج من صمت الموت الثقيل للعدالة
اعتمد الكاتب على الخيال بنسبة كبيرة، ومزجه بواقع التاريخ والحاضر، ليُظهر تعايشه مع القهر في المهجر والوطن. فشخصيّات الرواية خيالية، وتل صفرا بلدة زكريا ليست من الواقع، لكن الحبكة المتقنة جعلت القارئ يعيش أحداثاً، إن لم تكن واقعية فهي مرآة لواقع مرّ به لبنان ماضياً وحاضراً. وتجلّى الخيال قويّاً بحبر الروعة خلال السطور، على نقيض حادثة خلال روايته الرائعة “حيّ الأميركان”، التي تحدّثت عن مجزرة باب الحديد في الفيحاء شمالي لبنان، بدون ذكر مرتكبيها لأسباب يجهلها القارئ. مع أنّ المرتكبين معلومون، فقد كانوا من القوّات السورية التي كانت تسيطر على طرابلس زمن الرواية، مقوّضة الأمن، ما جعل الرواية تخرج نسبياً من نادي التأريخ الروائي
لماذا يا جبور الدويهي، ارتجلت المدى في رحاب السطور، قصّةً متمادية في طيشها الرقيق، وجعلتنا نسعى للانعتاق من سجن السؤال الحرج لأقحوان الوطن، عن الوعد الزاهر في ظلال الحقول المزروعة بألغام السّاسة؟
اتركنا نفترس المستحيل المتمايل على رهبة سكاكين قمع الثورة، ونتحرّر من أسوار الصمت الهالك، لنصل بعد كلّ العواصف إلى بزوغ فجر جديد