السادس من يوليو… الحادي والعشرون من رمضان في عز الصيف… النهار يَلتهم الليل بسرعة ضوء الشمس. سكتت أصوات المدافع، وخف الاشتباك، ففي النهار ينام أمراء الحرب، وينام معهم صوت الرصاص. غير أن الدبابة اللعينة تحت شرفة شقتي، قَضَّت مضجعي. ولأنني أتخذ ساتراً من الرصاص، أتجنب النوافذ، خوفاً من شظايا زجاجها. قذيفة الهاون التي سقطت على سيارة جاري ليلة البارحة، حولتها إلى كومة حديد منصهر. جاري الذي كان يخاف عليها، يطرد الأطفال ويرمي بكرتهم بعيداً كلما اقتربوا للعب بجوارها.
السابعة صباحاً، وهدوء يخيم على الطريق. البحر هادئ أمامي، ونافذتي بخير، غير أن بعض الكتب سقطت من على أرفف المكتبة. دخلت إلى المطبخ، أفكر في وجبة فطور لصغاري النائمين. الثلاجة فارغة، مصباحها يضيء على الفراغ. الحصار اشتد، أسبوعان والأسواق مقفلة، وقلب المدينة محاصر بالاشتباكات، وكل جهة تحتل مخرجاً للمدينة. البحر أمامي، لا يحتله أحد.
استيقظ الصغار، شغلت التلفاز ورفعت صوت الرسوم المتحركة (توم وجيري)، ابتسمت لصغاري كي لا يلاحظوا ارتباكي وخوفي. أغلقت النافذة، ووضعت حائطاً من إسفنج المراتب عليها. مرة أخرى دخلت المطبخ، ومن نافذتي لمحت أصحاب اللِحى والملامح الغريبة يرتشقون قذائف “الآر بي جي” ويشربون الماء، فهناك فتوى تُبيح الإفطار لإخواننا المجاهدين… انفجر صهريج الماء فوق البناية المجاورة، واختبأوا كالجرذان. طأطأت رأسي قليلاً وأكملت الخروج زاحفة إلى الممر. قررت أن أحضر الفطور مهما كان الثمن. أنزلت الفرن الكهربائي، وعجنت الخبز بيدين ترتعشان، كلما غرست يدي في العجين، مسحت دمعتي بيدي الأخرى. وأعددت حساءً درناوياً بما تبقى في حافظة القديد.
نظرت إلى صغاري وهم مستمتعون بمقالب توم، القط البائس في نظري، ضحية الفأر الذكي… قمت بتشغيل الفرن في الممر وجلست أنتظر نضوج الخبز. سمعت جلبة خلف الباب، تأملت من الثقب؛ إنها جارتي التي نامت في قبو العمارة ليلة البارحة، لأنها تقطن في الطابق العلوي، وحين اشتدت الرماية، هرعت بعائلتها خوفاً من القذائف.
اقترب أذان المغرب. أتذكر ليالي رمضان العام الماضي، كيف كنت أتسابق لصنع الأطباق الشهية والحلويات والعصائر. والدقائق الجميلة هي مع اقتراب المغرب، حين يعم السكون لننصت للأذان. (خبز وماء وحساء) هو فطورنا، ولا صوت يعلو على صوت المدافع.
ساد الهدوء مرة أخرى. صعدت إلى جارتي، وأقنعتها بالمبيت لدي هي وبناتها وحماتها العجوز. بخجلٍ قَبِلَت عرضي، وأخبرتها بإحضار الأوراق الرسمية والصور والإثباتات، وما خف وزنه وغلا ثمنه. نزلنا إلى الطابق الأرضي معاً نتأمل بقية العمارة الخالية من أصوات الجارات والأطفال. قطة جارتي تموء من الجوع والعطش أمام الباب، فسكبت لها الماء.
جلست كوثر معي، أعددت القهوة ونحن نتأمل الأخبار، منتظرين خبراً عاجلاً مع انقطاع الإنترنت عن المنطقة. نجهل المصير، والوجهة التي سوف نتحرك إليها. يتقدم المذيع في خبر عاجل: “سوف يؤمّن الهلال الأحمر غداً ممراً آمناً للمدنيين على الطريق الساحلي. الخروج بالأعلام البيضاء غداً”.
اتفقت أنا وكوثر على تجهيز الحقائب. هناك أشياء ثمينة لا نستطيع حملها معنا، فاقترحت عليها أن نضعها في حوض الاستحمام (البانيو) ونلقي فوقها الملابس. في حالة اقتحام اللصوص للشقق لن يلاحظوها، فمن يكترث للحمام؟ غرف النوم والخزائن هي مطلبهم لمسروقاتهم. لم ننم تلك الليلة، أخرجنا ألبومات الصور وتبادلنا الفرجة. ضحكنا كثيراً أنا وكوثر والصغيرات على عفوية الصور.
اقترب الفجر، وبدأت خيوطه المنسدلة على شاطئ البحر تضيء الممر الآمن. اقتربت من النافذة، وإذا بسيارة إسعاف تقل أحد الجرحى مسرعة، تعترضها قذيفة، لتنقلب السيارة بالمسعفين والجرحى معاً. تبعثروا على الأسفلت، فوق الممر الآمن. لم أستطع إخبار كوثر بما رأيت. تسألني: “ماذا هناك؟”. ابتسمت: “لا شيء، سيارات إسعاف عابرة”.
بحثت عن وشاحي الأبيض وربطته في عصا المكنسة وخرجت لأجلب سيارتنا المصفوفة خلف مبنى العمارة. تأملت أطفالي النائمين بسلام، وأوصيت كوثر: “إن لم أعد، فهم أمانة عندك”. عانقتني كوثر باكية، وقالت لي: “في رعاية الله”. خطواتي على السلم مرتبكة، مترددة بين الخروج من باب المبنى والهروب، أو البقاء لمصير مجهول بين أطراف حرب لا ترحم.
قررت الخروج وأنا أومئ براية بيضاء لأشباح لا أراهم. القناص يتمركز على تلال (شيحا)، أي هدف متحرك هو مشروع. كان جاري يقنعني بالبقاء، وما إن التفتُّ حتى أصابته إطلاقة في ساقه اليمنى، سقط وأكمل زحفه إلى أن وصل أمام بيته. استقللت السيارة ووشاحي الأبيض على كتفي إلى أن وصلت للمبنى. كانت كوثر والصغار معاً في انتظاري. تقاسمنا السيارات ومضينا في رحلة واحدة.
كان الطريق مكتظاً بسكان المدينة، موكب طويل، نساء يجهشن بالبكاء، صراخ الأطفال، والعجائز في حالة ذهول. اشتد الزحام، ترجل أحد المارة من سيارته ليخبرنا أن الطريق غير آمن، “هناك ألغام أرضية، تجنبوا الطريق، انعطفوا إلى الطريق الترابي”. كان مرهقاً ومتعباً، لكن لا خيار آخر لنا. استمرت الرحلة وأنا أتأمل المدينة التي تغيب عن ناظري شيئاً فشيئاً. أتأمل الوجوه في السيارة أمامي، هناك رجل يحتضن كلباً وسط الأغراض والأغطية والحقائب، والكلب مذعور خائف.
تذكرت كلبي الحراسة (كوكو) و(بوش) اللذان يحرسان بيتي في وادي الناقة. لقد صمدا لمدة أسبوع دون طعام، لم أستطع الوصول إليهما. انتظرت كوثر على جانب الطريق، لأنني قررت الذهاب إلى الجبل الأخضر، فهناك المكان آمن. اقترحت عليها البقاء في بيتي، فهو أفضل. وافقت كوثر، وانطلقتُ إلى الجبل الأخضر.
أكوام التراب على جوانب الطريق مع اقترابنا من (كرسة)، كانت هنا أول بوابة نعبرها إلى الحرية. استنشقت هواء البحر، ملأت رئتي بالهواء والسلام. نظرت لصغاري وهم نائمون على المقعد الخلفي، وابتسمت. الجبال على يساري سلاسل ممتدة، والبحر عن يميني، والريح تداعب وشاحي الأبيض. نحن الآن بأمان… ابتسمت ومضيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القديد لحم مقدد، في الشمس يستخدم للطهي، ومن اشهر اطباقة الحساء الدرناوي، بالنعناع والحبق، والكسبرة
شيحا حي سكني بمدينة درنة يتوسط الجبال
وادي الناقة و، كرسة الظهير الغربي لمدينة درنة