حلَّ الشَّاعر الكبير شوقي بزيع، ضيفًا على “جمعيَّة تجاوز الثَّقافيَّة”، في أمسيَّة تلاقت فيها رغبته في الإطلالة على جمهور جديد، وشغف أعضاء الجمعيَّة وأصدقائهم في القبض على شاعريَّته… فكان لهم ما أرادوا.
أمسية أكَّد ضيفها، ابن زبقين الجنوبية، ورئيس الجمعيَّة البروفسور ديزيره سقال أنها تحدٍّ للموت، وترجمة للحياة والإبداع، وسط ما نشهده في لبنان، وفي هذا الشرق، من حروب ومآسٍ وانهيار قيم ومبادئ.
أمسية، على جاري العادة، احتضنها مقر نقابة المعلِّمين، فرع جبل لبنان، في سوق جونيه العتيق، وحضرتها كوكبة من الشُّعراء والمثقَّفين، واستغرقت نحو ساعة، وقدم البروفسور سقال فيها للضيف مرحبًا بقصيدة تفعيلة، جمع فيها بين تراب الجنوب، وزرقة عيني الشَّاعر ولغته الشِّعريَّة المميَّزة.
جمعية “تجاوز” ومنتديات أخرى، ملأت فراغًا ثقافيًّا، غاب عن جمعيات وروابط وصالونات أدبية ومقارَّ ثقافية، كان لمنابرها الفضل في إبراز شعراء وتقديمهم إلى الناس، زمن لم يكن للإعلام الانتشار الذي نعرفه اليوم.
ولسان حالنا، في مختلف أنواع الفنون، حين ارتجلَت منتدياتٌ نفسها بديلًا، يقول:
كلَّما اجتمعَ اثنانِ على اسمِ الكلمة، كنتُ ثالثَهما.
هكذا قالتِ المعرفةُ للتاريخِ والغدِ، وقد صدَقَتْ.
هَكَذا أسَرَّتِ الثَّقافةُ إلى وسائدِ الأحلامِ، وقد فُسِّرَتْ عَطاءاتٍ وروائعَ وإبداعات.
هكذا قال الإزميلُ للصَّخر، فكان الجمالُ وكانتِ الدَّهشة.
هكذا قالت الريشةُ للقُماشة، ففصَّلَتْ للعينِ فساتينَ ألوان.
هكذا قال الشِّعرُ للورق، فأزهرَ قوافيَ وبعلبكَّاتِ حروف.
هكذا قالت الخُطوة للخشَبةِ، فتراقصتْ أزاهيرُ الخصورِ وتمايل حورُ القاماتْ.
هكذا قالَ النَّغمُ للوتر، فتضوَّع المدى أغنياتٍ أغنيات.
وهكذا قلت وأكرر، كلَّما انضم منتدًى جديد إلى منتدَيات، أغنت، في ما مضى، حياتَنا الأدبيَّة والثَّقافيَّة، وكان منها مبدِعون في الفنون السَّبعة، وعادت منذ عشرين، منذ عشر، منذ خمسٍ، منذ اثنتين… ما همَّ عددُ سنواتٍ، لتعُمَّ لبنان، قريةً قريةً، ومدينةً مدينةً.
فـ”يتجاوزُ” المكانُ الصَّغيرُ نفسَه إلى رحابٍ رحاب، ويضيءُ “القِنديلُ” الفتيُّ ألفَ عتَمَةٍ وعَتَمَة، ويتَّسع “اللَّيلُ للحكي” فاتحًا ذراعيه لشمسِ نهار، ويعودُ “الحكي إلى أصله”، وتطلَعُ “الزَّوايا” من زواياها، وتُشهِرُ “الرِّيشةُ العطرَ”، وترسو سفينةُ القصيدة على “شاطئ أدب”، وتكتبُ القافية نفسَها بـ”حبر أبيض”، ويحلو بين اللِّقاءِ واللِّقاءِ، “لقاءٌ”… وتُزهِرُ المنتدياتُ، بـ”بخور وحي”، فتملأ قرانا والمدن عطرًا، ولا يسكُتُ أو تسكُتُ “شهريادُ”، عن الأمسياتِ المُباحة… من دون أن ننسى منتديات وجمعيَّات تنشط، في مختلف القرى والمدن اللبنانية، خصوصًا خلال الصيف؟
منتدياتٌ كثيرةٌ، جميلة وصديقة، تشرَّفتُ، بأن مررتُ بمنابرها، ولو مرورًا عابرًا، حتَّى إنَّني كنتُ، أحيانًا، أَمضي متنقِّلًا بينها، طَوال الأسبوع الواحد، عددَ أيَّام الأسبوع الواحد، لكأنِّي به من الأيامِ ثمانية.
لكل منتدًى أسلوبُه، ولكلٍّ أدباؤُه وروَّادُه، ولكلٍّ جوُّه ومُناخُه وعُدَّتُه، وحتَّى أرغيلتُه، ولكلٍّ مواعيدُه ومطارحُه، وفي كلٍّ منها أجدُ بعضًا منِّي، حتَّى إذا ما مرَّت جميعًا في ذاكرتي، لحظةَ تأمُّل، أجدُني كاملًا، جَميعي أمام ناظريَّ.
وعليه، ولِئلَّا يبقى الأسبوع ثمانية أيام، ننهبُ الطُّرق، في بحره، إلى شمالٍ وجنوبٍ وبقاعٍ وجبلٍ وعاصمة، أقترح، برسم القيِّمين على هذه المنتديات، تأليفَ لجنة مشتركة بينها جميعًا، تنسِّق المواعيد والبرامج، فلا نعود نفوِّتُ شاعرًا نحبُّه هنا، أو ندعُ توقيعًا يقعُ من يدِنا هناك، أو نأسفُ لغيابٍ عن نَدوةٍ أو تكريم… أو لا تعودُ الاعتذاراتُ تُفيد، لأن متعةً ما قد هربت من شَغاف قلب.
هذا اقتراحٌ لنفكِّرْ فيه معًا…
هو القائل “نحن أحيانًا نرشي الموت ونقنعه ليرأف بنا ويمهلنا وقتًا علّنا نستطيع أن نحقق الأعمال غير المنجزة، ونناديه: مهلًا علينا”
وكم عنى لي هذا الاقتراح، حين استضافت “تجاوز” ليل الخميس الشاعر شوقي بزيع، القليل الإطلالات في الأمسيات اللبنانية وحتى خارج لبنان. مذ اعتلى المنبر، كشف أنَّه سيقرأ قصائد قلَّما ضمَّنها أمسياته، أو هو يقرأها للمرَّة الأولى، اعترافًا منه بأهليَّة الجمهور الحاضر ورفعة ثقافته وأهميَّة تجاوبه.
غلب على ما اختاره من قصائد للأمسية الطابعان الوجداني والغزلي، فلم يحاكِ شتلة التبغ في زبقين حيث رأى النور، ولا وديانها ونهرها وفراشاتها وعصافيرها، حيث لَهَتْ مخيلته، لكنه عرَّج على مقاعد كلية التربية حيث تشكل وعيه الفكري والشعري. ولم ينسَ “الشُّرفة” التي كان في مطلع شبابه يطلُّ منها، في الطَّبقة العشرين لمبنى شغله في شارع الحمرا، على صبايا ذاك الشَّارع، فاردًا لـ”تهيُّؤات عمر بن أبي ربيعة”، الَّذي ما خفي قمره بعد، مساحة شعرية. أما في قصائده الأخرى، ومنها قصيدة “حنين”، فصحَّ فيه وفيها ما كتبته الناقدة زهيدة درويش جبور في المجلّد الأول من أعماله الشعرية الكاملة: “لو أردنا أن نصف تجربة شوقي بزيع الإبداعية بكلمة واحدة، لما وجدنا أفضل من النَّهر، فحركته متجدّدة دائمة وماؤه واحد لا يتغير”.
لم يكثر صاحب “مرثية الغبار” من قصائده، لكنه اختار ما أتى به إلى الأدب، وما يخبئ بعد للغد، هو القائل “نحن أحيانًا نرشي الموت ونقنعه ليرأف بنا ويمهلنا وقتًا علّنا نستطيع أن نحقق الأعمال غير المنجزة، ونناديه: مهلًا علينا”.
وبزيع الذي امتازت قصائده بتوظيف التراثِ الإسلاميِّ والمسيحيِّ، بنفحة من التصوُّف، ما خذل جمهور الأمسية الذي طالبه بقصيدة “مريم”، فحاكى فيها ختامًا، معاني كل الأعياد، مؤكدًا بذلك أن الشعر يبقى هو أجمل عيد.