ستُّون خريفًا وشهقةً، ومازلتُ أُداوي جراح العمرِ بخرقةٍ تتكلَّمُ أبجديَّة تعبي، من دونِ أن أشتكي يومًا. الصَّقيع الَّذي نام على كتفِ الشِّتاء كذبةٌ، فالبردُ هذه المرَّة في قلبي!.
تعلَّمتُ من لغةِ الشَّوارع الكثير من المفردات، لم تكن سيّئة، لكنَّها لم تكنْ كافيةٍ لأُعبِّر!
“العوافي، أهلا وسهلا، نوَّرت، مع السَّلامة و… يلعن هاللحظ!” وكانت أكثر ما أجيدُ بهِ منَ الفصاحةِ.
لم أكن سوى كندرجي يعملُ في متجرٍ أو خربةٍ إنْ صحَّ التَّعبير. سقفها من تنكٍ ينقرُ أذنيَّ حين تمطر، وكأنَّه يذكِّرني بفقرٍ تعلَّمتُ أن أزدردهُ مع كِسَرِ الخبزِ اليايس!
لم أندمْ أو أخجل من عملي، فقد حفظ لساني طعم المسامير واعتاد أنفي رائحة “البويه” وحفظت أذناي بعض شتائمُ الزَّبائن دون أن تنخدش. لم أتألَّم من ذلك…
تعلَّمت لغة التَّجاهل ولغة الصَّمتِ. ولكنَّني احترتُ في إجابتي مَنْ منَّا أبلغ؟ صمتي أم لغة فناجين القهوة وهي تتركُ دوائرها تمتدُّ فوق كفّي؟
في أحد الأيَّام مرَّت على متجري بصَّارة وبصوتها الملعون بالفضولِ نادت:”بصَّارة… بصَّارة… ببضع ليرات يا عم أكشفُ السِّر… جرِّب ولن تندم.”
وأنا رجلٌ تعيس كل ما أريدهُ أن أعتذر عن كل أخطاء العمر، مددتُ لها فنجاني لتقرأ… وبعد تحديقٍ وتمحيصٍ شهقت:” ويلك يا عجوز، ذنبك أثقل من جبل، وأنت تدور حول نفسك، بحثًا عنك… فتفقد ما تبقى منك”
صمتت…
فنكرتها. حاولت طردها. أغرتني بالمزيد، فدفعت كل ما جنيته في ذلك النَّهار. مددتُ يدي بدل الفنجان وقلت اقرأي.
نظرت إليَّ بمكرٍ وقالت :”لم أفكَّ حروف الكفِّ من قبلِ، أهلي لم يعلّموني”.
“تبًّا للأهل الَّذين يبخلون علينا بالتَّعليم!…
هرولتْ مبتعدةً.
نظرتُ من حولي، بائعُ الخضار ينادي بملء فمهِ، الأطفال عائدون من مدرستهم وضحكاتهم قوافي ترِنُّ، همسُ النِّساء وحده لغة. حتَّى عرباتِ المتجوِّلين تجيدُ النَّطق بالعربيَّة. وأنا وحيدًا أئنُّ بلا حرفٍ. آهٍ لو أنَّ لي سلطانٌ على لغتي، لغازلتُ قلب حبيبتي الَّتي هجرتني لأنِّي لم أتعلَّم كيف أكتب لها كلمة “أحبّك”.
وكانت أُميَّتي مرضي.
كلّ ما من حولي ينطق بالعربيَّة إلَّا لسانُ قلبي أخرسٌ. بقيتُ بصمتي أثرثرُ، مسكينٌ من لم يجدْ فنَّ الحرف، مسكينٌ من لم يدخل دهاليز العربيَّة ويجعل من همزتها بساط سفرٍ من معجمٍ لآخر.
أعذريني يا حبيبتي، لم أتعلَّم كيف أكتب كلمة “أحبّك” لكنَّ لهفة قلبِي تهجِّئ كلّ حرفٍ منها وتهلوسُ بكِ، رغم أنِّي منسيٌّ من فمِ اللُّغة.