كنت بالأمس حضوراً على منصة (الغرفة 19) في محاضرة ثرية عن (التجارة بين طرابلس و بيروت مع الدول الأوروبية في عهد المماليك)…
حيث تحدث لنا الخبير في تاريخ المماليك د. بيار مكرزل وادارت المحاضرة الاديبة الاستاذة اخلاص فرانسيس..
كانت المحاضرة ثرية بالتفاصيل التاريخية، لكنها في جوهرها أعادتنا إلى أصل العلاقة بين الإنسان والبحر ذلك المدى الذي ظل عبر العصور مرآة لتحولات السياسة والاقتصاد والوعي الإنساني و الحضارات..
كما اثرت الاسئلة والاجابات المتقنة عليها المحاضرة بشكل اعمق …

وبما انني من دعاة التغيير والإنفتاح فقد سألت و في بالي احوال السودان عن التغيير الديموغرافي ومدي تاثير الحركة التجارية الكثيفة والمتتابعة في ذلك؟ وتبعت السؤال اسئلة عن التبادل الثقافي وحركة الشعوب البحار والهجرات
قال المحاضر إن تلك التجارة في ذلك الوقت لم تنتج تبادلاً ثقافياً كبيراً رغم كثافة السفن والرحلات بين الشام وهلالها الخصيب وأوروبا ، وإن الأثر الأوضح كان في تضاعف عدد السكان في تلك المدن الساحلية.
وهذه نقطة دقيقة ومؤلمة في الوقت ذاته فالازدهار الاقتصادي لا يخلق بالضرورة ازدهاراً ثقافياً في حال تهيب الاختلاط والتركيز علي الجانب الاقتصادي وما قصدوه في الاصل بحركتهم عبر البحر ..
كما أن تضاعف الناس لا يعني بالضرورة تضاعف الوعي وتفرع الفكرة…
لقد ازدحمت طرابلس وبيروت بالناس كما ازدحمت خزائن المماليك بالذهب، لكن الأفكار لم تتلاقح او تتبادل مثل ما حدث مع البضائع ..
لكن المحاضر اشار الي طلب بعض التجار من الحكام ان يسمحوا لهم بارتداء ازياء اهل البلاد تحسباً لما يمكن ان يحدث لهم اذا كانوا في ازيائهم الغريبة واظن ان هذه سمة من سمات التبادل الثقافي .. وفتح باب لتقرب الغريب .. وقبول ثقافة المنطقة بغض النظر عن السبب الداعي للفعل…
كانت السفن تمر وتتبادل العطور والتوابل والزجاج، والقطن و الذهب عملة تبادل السلع والخدمات في تلك الايام …
أما الكلمات والرؤى والعقول، فبقيت على الشاطئ تنتظر من يحملها الي البر الاخر…
كان البحر آنذاك طريقاً للربح لا للمعرفة و مع ذلك فإن تضاعف السكان في تلك المدن لم يكن بلا دلالة،
فكثرة الناس تعني أن هناك من وجد في التجارة أملاً للحياة، لكنها أيضاً تذكير بأن التحرك الجماعي لا يكون دائماً نابعاً من ازدهار، بل أحياناً من اضطرار غالباً مصحوب بالحذر ..
وهنا عزيزي القارئ، يأخذني التأمل إلى حاضرنا السوداني حيث نرى المشهد مقلوباً بصورة موجعة…
في ذلك الزمان تضاعف السكان حول الموانئ لأن التجارة كانت جاذبة،
أما اليوم في السودان، يتضاعف الوجود البشري حول البحر الأحمر هرباً لا طلباً .. و نزوحاً لا هجرة اقتصادية .. تتقاطر المدن علي بورتسودان كما كانت القوافل البحرية تتقاطر على طرابلس وبيروت وموانئ الشام الاخري ، لكن الفارق أن أولئك جاءوا بحثاً عن التجارة و هؤلاء جاءوا بحثاّ عن النجاة ، حتي حكومة الخرطوم وجدت امنها ببورتسودان واستقرت لادارة الحرب من هناك …
بين البحر الأبيض الذي عبرته الحضارات، والبحر الأحمر الذي تعبره المعاناة، تتجلى الفوارق بين من يملك التاريخ ومن يهرب منه رغم القدم والهجرات …
في زمن المماليك، كان البحر طريقاً للحياة، و في زمن الحرب السودانية، صار البحر طريقًا للنجاة، تتشابه الحركة وتختلف الدوافع، لكن يظل الإنسان هو الكائن الذي يتحرك حين يختنق المكان،
يبحث عن الأفق مهما كان ضيقًا…
اليوم البحر الأحمر هو الشاهد الجديد على صراع المصالح الخفية كما كان البحر المتوسط في زمن المماليك و ما بين الموجتين (تلك القديمة و هذه الحالية)
يبقى السؤال قائماً
هل نستطيع أن نحول حركتنا نحو البحر إلى مشروع حضاري حقيقي،
أم سنبقى نتحرك بلا بوصلة،
كما تحركت طرابلس يوم كانت السفن تأتي وتغادر دون أن تترك أثراً ثقافياً كبيراً كما افاد الدكتور بيار
إن المحاضرة التي استمعنا إليها كانت أكثر من درس في التاريخ، كانت مرآة للحاضر،
تذكرنا بأن البحر ليس حدوداً مائية مالحة بلا حياة.. بل هي طعم الحياة و مساحة اختبار للعقل والضمير الإنساني..
من يملك البحر لا يملك القوة فحسب، بل يملك فرصة لفهم معنى الحياة المشتركة وتبادل المصالح والعيش في سلام روحي و فكر موحي
فلنتعلّم من طرابلس القديمة أن التجارة وحدها لا تبني أمة و وعي ، و أن تضاعف السكان لا يعني بالضرورة تضاعف الحضارة و لنتعلم من حرب السودان أن النزوح لا يخلق استقراراً بل يخلق سؤالًا أكبر كيف نصنع وطناً لا نغادره، وبحراً نبحر منه لا نهرب إليه؟
سلام على طرابلس التي جمعت الشرق بالغرب في زمن التجارة،
وسلام على السودان الذي يقف اليوم على حافة البحر
ينتظر أن يفهم أن الموانئ ليست مجرد مخارج للهروب بل مداخل للوعي…
وختاماً التحية لبيروت و طرابلس وكل موانئ الارض الشامية ..وغنوا معنا بلهجة (الزول) لبورتسودان حورية البحر الاحمر :-
عروس البحر يا حورية
يا بورتسودان ياحِنية
من قلبي تائه في حبك
اهدي سلامي والف تحية
يشوق الفرحه النشوانة
يا أماسي الحب الشرقية
لرقصه رشيقه بجاوية
لغنوة جميلة سواكنية
لعيون أحبابنا الحلوين
لليالي الفرح الوردية

محمد طلب
أديس أبابا
28/10/2025