إخلاص فرنسيس
من قلب الشارقة، حيث تنبض ذاكرة المكان وتستحضر حكايات التراث والعمران، انعقد الاجتماع التنسيقي لرؤساء الفرق العلمية لموسوعة العمارة التقليدية في العالم العربي، الذي نظمه معهد الشارقة للتراث بمركز التراث العربي على مدار يومين. ووصِف الاجتماع بأنه محطة فارقة في مسيرة الحفاظ على العمارة التقليدية وكتابة فصل جديد في صون الهوية العمرانية العربية، بحضور سعادة الدكتور عبد العزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث ورئيس اللجنة العلمية العليا للموسوعة.
جاء هذا الاجتماع بعد إنجاز الجزء الأول من الموسوعة، التي تهدف إلى أن تكون مرجعًا شاملًا للعمارة التقليدية في الوطن العربي. ويشارك في المشروع باحثون وخبراء من نحو عشرين دولة عربية من المحيط إلى الخليج، ليشكل أول قاعدة معرفية جامعة للمصطلحات والمفردات والأنماط العمرانية التي شكّلت وجدان الإنسان العربي عبر القرون.
وأوضح الدكتور عبد العزيز المسلم أن الاجتماع يأتي بعد إنجاز الجزء الأول من الموسوعة، وأن العمل مستمر على بقية الدول العربية لتغطية شاملة. وأضاف أن الموسوعة تسعى إلى جمع المصطلحات والمفردات من التراث العمراني العربي، مع التركيز على المشتركات والاختلافات والتأثيرات بين مناطق الوطن العربي.
من جانبه، أشار المهندس سلطان آل حسين الحمادي، مدير إدارة المشاريع والمواقع التراثية في الشارقة، إلى أن الفريق الإماراتي ركز على السياق التاريخي للمصطلحات والمفاهيم المعمارية، موضحًا كيفية ارتباطها بالمدن الساحلية والأسفار والتفاعلات الثقافية المختلفة التي أثرت في مدينة الشارقة، ما يتيح معرفة مصادر هذه المصطلحات سواء كانت أصيلة أو متأثرة بعوامل خارجية.
شارك في الاجتماع باحثون من مختلف الدول العربية، منهم:
د. حنا نعيم حنا من مصر، التي قدمت ورقة بحثية حول المصطلحات المتعلقة بالعمارة التقليدية والأنماط العمرانية والمكونات الفراغية والإنشائية في العمارة الشعبية المصرية.
د. خالد عمر من لبنان، الذي عرض دراسة عن المصطلحات المعمارية والزخرفية في لبنان وبلاد الشام، موضحًا العناصر المشتركة في التراث العمراني الإقليمي.
استهل اليوم الأول من الاجتماع بجلسات مفتوحة للتعريف بالموسوعة ومناقشة مضامينها ومراحلها، إلى جانب استعراض المجلد الأول الذي يتناول المدخل المنهجي والوصف الأولي. أما اليوم الثاني فخصص لجلسات نقاشية مغلقة لتحديد آليات العمل ومناهجه، وسُبل إنجاز المراحل المقبلة بالسرعة والدقة المطلوبتين.
ووصف الدكتور مشاري النعيم، أستاذ النقد المعماري في جامعة الإمام عبد الرحمن الفيصل بالمملكة العربية السعودية، المشروع بأنه “مشروع قومي حقيقي وأحد الأحلام التي طالما راودت المتخصصين”. وأوضح أن المعجم لا يقتصر على رصد المصطلحات العمرانية، بل يتتبع رحلاتها عبر المكان والزمان، ويعكس كيفية تكيفها مع بيئات مختلفة، ليشكل أرضية معرفية يمكن البناء عليها في دراسات إثنوغرافية واجتماعية وتاريخية.
وقد ركز المشاركون على أن العمارة التقليدية ليست مجرد جدران وأقواس وأعمدة، بل انعكاس لعلاقات اجتماعية وثقافية واقتصادية. ومن هنا جاءت أهمية توثيق “سلالات” الأشكال العمرانية، أي أصولها وتطوراتها وانتقالاتها.
وأشار الباحثون إلى التحديات في توثيق العمارة التقليدية، أبرزها: اعتماد الدراسات السابقة على جهود فردية أو على أجزاء محدودة من التراث، وتأثر التعليم المعماري بالأنماط الغربية، ما أدى إلى تراجع حضور العمارة التقليدية في الوعي المعاصر. ومن هنا تظهر أهمية المشروع في مخاطبة الباحث والمتخصص ورجل الشارع على حد سواء، وإظهار إبداع الإنسان العربي في تصميم بيئته العمرانية.
ولم يقتصر المشروع على التوثيق الورقي، بل يهدف إلى إنشاء معجم رقمي تفاعلي يتيح الوصول إليه عبر الإنترنت وربطه بأنظمة المعلومات الجغرافية (GIS)، ليتمكن المستخدم من تتبع المصطلحات واكتشاف تعدد تسمياتها ودلالاتها وانتشارها الجغرافي.
وأبرز الاجتماع قيمة التعاون العربي الموحد، حيث اجتمع خبراء من مختلف الدول حول مشروع مشترك، مما عكس دور الشارقة كمركز عربي للإبداع والحفاظ على التراث. وأكد المشاركون أن وجود قيادة منهجية مثل معهد الشارقة للتراث عامل حاسم لنجاح المشروع واستمراريته، خاصة بعد إخفاقات مشاريع سابقة بسبب غياب المرجعية المؤسسية.
