منال حداد
لا يوجد نبض
نده الطبيب
انتفضت مذعورة ، رعشة ، انقباض ،هدير ظلمة سحيق ، وميض هشّ، تزحف إليه حيات دخان تمزّقه ، تشرّد بالحواس ، هذيان ، أنين ،غرق، وخيط دقيق أحمر مازلت أحسّ أنّه يقصم ظهري، ويسيل بين ساقي
أنزلق ، أغيب ، يلفحني ضباب ثقيل ، تتلبّد الرؤى ،أستحيل إلى جوف مظلم ، تسبح في خلاياي مئات الشعيرات الدموية ، تستنجد ، تتشبّث بانثناءات ضئيلة للحياة
أطفو في سائل غامض ، أحسّ بالخدر، وصوت عذب وحيد من عالم آخر يتقطّع داخل صدري ، أمتصّه، ويمتصّني ، أتحد بالجنين داخلي، ثمّ لا شيء
أفتح عينيّ بتثاقل ،غمامة كئيبة تتأرجح بجفني ، تهوي ببصري إلى آماد بعيدة ، فأرى وجه أمّي
تبتسم ، تفتح ذراعيها ، تتلاشى ، تطلّ عيناك من خلف حجاب أخضر، تموّه بعذوبة العسل ، تطل عيناك حكاية تشرّد تعبق برائحة المطر
تتكاثف الغمامة ، تهطل إلى جانبي على طاولة المشفى مجموعة كبسولات، والممرّضة تهتف بحنان
_ يجب عليك أن تتناولي الدواء
يسترسل الطبيب
_حمدًا لله على سلامتك
أنقل نظري بين وجهه ووجه الممرّضة ، إنّهما مألوفان
_ آسف يا مريم ، اعترض سيارة الإسعاف إطلاق نار كثيف ، فاضطررنا للعودة بك إلى هنا
أرعف قطرات من الذاكرة ، إنّهما الدكتور حسن وزميلتي هبة، مازلت في مشفى الأطفال في دمشق بعيدة مئات الكيلومترات عن منزلنا في اللاذقية
أجترّ مزيدًا من أحداث الساعات الماضية ، وعيون الطبيب وهبة معلّقة عليّ بترقّب حزين، أنصت ، هنالك رنين هاتف ، لمّا يزل يئنّ في رأسي دون توقّف، ولا أستطيع أن أستحضر ما حدث بعد ذلك
أغمض عينيّ من جديد ، تضيء مقلتاك نجمتين زمرديتين في سماء قلبي ، تبتسم وأنا أحاول أنْ أحدّد لونهما بدقّة ، مزيج من الأخضر اللوزي والزرقة الللازوردية يستحمّ بشهد ذهبي
تضحك ، تضحك ، تضحك ، تضمّني إلى صدرك ، تهصر أضلعي برائحتك العذبة ، تزيّن أذني بقرط ثمين ، كلمة ماسية الترف ، قدرية الحروف تهمس: أحبّك
أرتعش ، وأجني من شفتيك ألف لؤلؤة وقبلة
أصحو والدكتور حسن يسحب من وريدي إبرة ( السيروم ) ، هبة مازالت إلى جانبي، ومازلت أجوب شوارع الذاكرة ، وقد دكّتها رصاصات هادرة ، كانت إلى جانبي في سيارة الإسعاف التي جابت شوارع دمشق محاولة الوصول إلى أقرب عيادة نسائية، إلّا أنّ دويّ القذائف والرصاص عاد بالسيارة ، لكنّي بقيت هناك أنتظرك، أحلّق في سماء داكنة على سرير مشفى أبيض ، تطالعني قفار مسكونة بالذعر والخواء، فتتقهقر الذكريات ، وتنصهر الأصوات ، فقط روح ضحكتك تتدفّق بحيوية في عروقي، وتشعل في أحشائي جمرة شتاء دافئة، ألقيتها ذات ليل بارد إلى رحمي
أضع يدي على بطني بتوجّس، فيأتيني صوت هبة
_ عزيزتي ، لقد فقدت الجنين
أستجمع أمومتي، وأصرخ بتشنّج
_ لا ، لا ، إنّه ينبض داخلي ، لقد سمعت نبضه الأسبوع الفائت، أشعر به، بضع قطرات من الدم لا تعني أنّي فقدته
يومض في رأسي شعاع أحمر، وتنبثق كلماتك ملوّنة حبّنا بالحزن والسأم
_ حبيبتي، أنت تعرفين كم أعشقك ، وأرغب أن أرى أطفالنا يكبرون أمامنا ، لكن ليس الآن ، لا أريد الإنجاب في هذا الوقت المسموم
أتوسّل
_ حبيبي، أرجوك ، أريد طفلًا منك ، نحن نغرق، ولا ندري متى تنتهي هذه الحرب ، ولن أنتظر المجهول كي أشعر بك داخلي
تنزف
_ عجيبة أنت ! لقد قلتها بنفسك ، مجهول ، حرب ، غرق، أيّ مصير هذا الذي سأقذف إليه طفلًا ؟! وهل غاب عنك أنّ كلًّا منّا يعيش أغلب أيامه في مدينة ؟
أريد طفلًا، لكنّي لا أريد تشرّدًا جديدًا، لا أريد خوفًا آخر يقضّ مضاجع قلبي، لا أريد أن أكون عقيم الوجود حين تلدين
أستجدي
_ أريد طفلًا منك ، أريد أن أشعر بك داخلي، ثمّ أما كنت تدرك أنّ كلًّا منّا يعيش، ويعمل في مدينة قبل أن نتزوج ، وقد لا أتمكّن من نقل عملي إلى هنا ؟
تصمت ، يغلفك صمت سقيم ، فجأة أعجز عن النفاذ إلى صدرك لأجسّ نبض قلبك
تصمت ، تصمت، تبثّني عيناك كآبة مريرة، تنهض، وأرى خلفك قلاعًا من الجوري الأحمر تتهاوى ، تضربني ذبحة خوف، تقترب، تطبع قبلة على جبيني، ويخرج صوتك مخنوقًا
_ غدًا أسافر إلى حلب، وأنت إلى دمشق ، نلتقي في إجازة الشهر القادم حبيبتي
أستيقظ، تتسلّق وجهي أشواك حادّة، نبتت من وسادتي، غذتها دموعي ، ذراعاي وساقاي تشدّها أوتاد السرير الأبيض ، يصلب أنوثتي، يجلدني الضجيج، أتوه في دوامته وأنا أنتحب، أشهق، أصرخ، وهبة تحاول أن تهدّئ نشيجي
مرّ على فاجعتي يومان حين راح زعيق الهاتف يصم أذني، لكن الصوت الذي حمله أصاب روحي بالصمم
_ سيدتي، آسف أن أنقل لك هذا النبأ، لقد استشهد النقيب حمزة
لم أسمع بعد ذلك شيئًا، فقط شعرت برصاصة حارقة نزلت بعمودي الفقري، واستقرّت في أسفل ظهري، وفجّرت في أحشائي نارًا سالت بين ساقي
تهاويت كخرقة بالية ، فتلقّفتني هبة ، وأول ما سمعت بعد ذلك كان :” لا يوجد نبض “
توقّف النزف بعد حين، لكن عندما حاول الأطباء أن يعثروا على نبض داخلي لم يسمعوا شيئًا، كيف يسمعون وهناك نزف في قلبي يهدر بأمواج الألم، ويحرّض ألف عاصفة شجن ؟
منذ شهرين نقلت إليك الخبر عبر الهاتف، لم تكن تدري أنّ أنوثتي غافلتك، واستبثت حبّك، ليغرس ثمرته في رحمي
أغلقت الهاتف وكأنّي رأيت دمعة سالت، وأزهرت على خدّك
لم تتمكّن من الحضور لملاقاتي كالعادة في منزلنا في اللاذقية بسبب حصار حندرات في حلب ، واستمرّ غيابك لشهر ثان ، غياب سيستمرّ لأشهر وسنوات، سيستمرّ دهرًا
أزل من الحبّ، وأبد من الغياب، وطفل اغتيل داخلي ، بهذا غادرت دمشق عائدة إلى اللاذقية ، وقد قدّمت استقالتي من العمل كممرّضة في مشفى الأطفال، لأنهي عامين من التشرّد بين مدينتين ، بل ثلاث مدن
غادرت على الرغم من تحذير الأطباء من خطورة سفري ، وقد رفضت الخضوع لعملية أستأصل بها ما تبقّى من الجنين
غادرت لأضمّ جثّة زوجي وطفلي داخلي
(لا يوجد نبض ) دوت الكلمتان في رأسي ، ووجدتني أطلب من أخي المرور بعيادة الطبيب النسائي قبل وصولنا إلى المنزل، كنت أمضغ صوتك في فمي أوراق تبغ عتيق، يخدّر حواسي حتى تمكّنت من الوصول إلى العيادة، قبل الوصول إليك واحتضان جثمانك تحت دهشة كلّ من أخي وأختي اللذين عادا بي من دمشق
وهناك سمعت صوتًا عذبًا رقيقًا من عالم آخر
نبضة ، نبضتان ، النبض واهٍ، ضعيف، لكنّه موجود، إنّك تنبض داخلي
غرفة 19
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم