
الإبداع روح، يولد من تجارب الإنسان وإبحاره في عالم الخيال، الإبداع رفيق الشّعور العميق، فهل يُمكن لآلة أن تنتج عملًا إبداعيّا ينافس إبداع الإنسان ويؤثّر فيه، وهل يمكن أن يكون مشاركًا فعّالًا في تطوير إبداع الإنسان؟ أو أنّه يشكّل تهديدًا في أن يكون بديلًا عنه؟ وهل ينجح هذا النّبض المستعار في إشباع رغبة الإنسان قراءة وبحثًا وإبداعًا؟
بيدين صلبتين صَنع الإنسان الآلة، تلك الّتي تجرّدت من كلّ شعور، لكنّها جاءت مطيعة للإنسان، ترافقه في خطواته وتسهّل عليه الحياة، لم تكن يومًا عنصرًا مشاركًا في الإبداع، إلى أن دخل “الذّكاء الاصطناعيّ” حجرة الإبداع الافتراضيّ في عصر الرّقمنة، فوُلدت مبارزة بين الإنسان والآلة، إذ أصبحت الآلة اليوم قادرة على الإبداع الأدبيّ، ومجاراة أسلوب معيّن بكبسة زرّ!
يُقال إنّ الذّكاء الاصطناعيّ قادر على صنع أيّ عمل إبداعيّ، وأنّه قادر على ابتكار القصص بحبكات متعدّدة، ويُقال إنّه يفتقد إلى التّجربة، لكن سؤالي هنا، من أين يأتي الإنسان بالتّجربة، أليس من الواقع الّذي يعيشه؟
ربما تجارب شخصيّة أو تجارب لآخرين، وهنا فإنّنا نجد أنّ الذّكاء الاصطناعيّ يفتقد للتّجربة الشّخصيّة أو الشّعوريّة، لكنّه يجمع ويخزّن مجموعة كبيرة من التّجارب الّتي خاضها آخرون، هو يخلو من المشاعر، نعم، لكنّه يحاكي النّصوص كأنّها خرجت من أنامل إنسانيّة، فلا يمكن التّمييز بين نصّ اصطناعيّ، أو إنسانيّ، لأنّه قادر وبشكل دقيق على التّقليد والجمع، وهذا ما يهدّد الإبداع الإنسانيّ ومصيره.
لكن في ظلّ ما وصلنا إليه اليوم فهل يستمتع الإنسان في قراءة كلمات ترسلها له آلة؟ أو هو بحاجة إلى من يشاركه الشّعور؟ وهنا تدخل التّجربة الشّعوريّة الّتي تميّز الإنسان، فالآلة مهما تطوّرت تبقى آلة، لا تتعدّى كونها شيئًا مادّيًّا، والإنسان بطبعه اجتماعيّ، مفطور على حبّ التّفاعل مع الآخر الّذي يحقّق كينونة الإنسان ويشعره بأهمّيّة وجوده, وكذلك فإنّ الذّكاء الاصطناعيّ لم يكتفِ فقط بالقيام بمهام الإنسان الإبداعيّة لكنّه تطوّر ليصبح الملاذ الآمن، والرّفيق الحاضر دائمًا للمساعدة والمساندة والاستماع، وإعطاء النّصيحة، فهل يدخل هنا الإنسان في دوّامة الاستغناء عن الأصدقاء، والدّخول في عالم من التّوحّد؟
هل بات الذّكاء الاصطناعيّ يشكّل خطرًا على الوجود الإنسانيّ بأكمله؟ هل يُمكن لهذا النّبض المستعار أن يبثّ الحياة في الإنسان؟ كثيرة هي التّساؤلات الّتي ترافقنا، ولكن من وجهة نظري المتواضعة أنّ الإنسان لن يستغني عن الإنسان لأنّه بحاجة إلى تبادل تلك الطّاقة التّفاعليّة مع روح، والرّوح لن تسكن الآلة أبدًا!
ذلك النّبض الحقيقيّ هو الّذي يربط بين الإنسان القارئ أو المتلقّي والمبدع (القاصّ، الشّاعر، الكاتب…)، فنحن كبشر نحتاج إلى كاتب حقيقيّ يشاركنا الشّعور بالتّجربة، وليس فقط العلم بالتّجربة، وهنا يكون التّفاعل داخل مساحة حرّة تتلاقى فيها النّفوس وتتلاقح، كلّ بحسب ثقافته وتجربته، ويكون فيها المتلقّي شريكًا في الإبداع، لكن إلى أي مدى يمكن لهذا الذّكاء الاصطناعيّ أن يؤثّر في الإنسان؟
من النّاحية الإبداعيّة مهما كان النّصّ مميّزًا فإذا عُرف أنّه إبداع اصطناعيّ حتمًا سيفقد جزءًا كبيرًا من رونقه وتأثيره نفسيًّا، أمّا على الصّعيد العلميّ فيمكن أن يقدّم بعض النّصائح والإرشادات الّتي من شأنها أن تحقّق تطوّرًا حقيقيًّا، خصوصًا إذا ما أحسن الإنسان أن يوازي بين الذّكاء الاصطناعيّ والدّور البشريّ، فمهما تطوّرت الآلة لن تفوق الإنسان، إلّا إذا أسأنا استخدامها واستسلمنا للتّقاعس والغشّ، وسلّمنا زمام أمورنا لها، عندها سنعلن حقيقةً موت الإنسان، ولن أقول أنّه في هذه الحالة يدخل ضمن تصنيف الآلات لأنّ الآلة اليوم تُبدع، وتبتكر، وتعمل، فلا أدري في أيّ خانة سيُصنّف عندئذ الإنسان اللّامبالي الّذي تخلّى عن دوره كإنسان، ولم يُبقِ من مشاعره سوى ما يستخدمه لنبض في قلبه يكمل فيه طريق الحياة، هو موت مؤقّت يدخل فيه الإنسان في حالة غيبوبة إلى حين تأتي لحظة الموت الحقيقيّة، فإذا تخلّى الإنسان عن دوره، فكيف يعيش ولماذا؟ وإذا فُقد الشّغف في البحث، والعمل والإبداع، فهل يكفي أن يعيش الإنسان ليأكل ويشرب؟ أين لذّة الحياة في العمل؟ وكيف سيطوي لحظات الملل، وبمَ سيكحّل أيّامه؟
واقع نعيشه اليوم ولا بدّ من استدراكه، لا يمكن أن نقبع في زوايا الوحدة رافضين الذّكاء الاصطناعيّ، بل على الإنسان أن يتعاطى معه بوعي وحكمة، وضمير إنسانيّ، ويعرف كيف يوظّفه في خدمة الإنسان والمجتمع، فالمبدع الحقيقيّ لا يقبل أن يُنسب إليه ما ليس له، على الرّغم من أنّه قادر اليوم أن يحقّق إبداعات كثيرة بكبسة زرّ، إلّا أنّه يعلم أنّه مسؤول أمام الله وأمام المجتمع عن كلّ كلمة، ومن اعتاد في طبعه على الغشّ، سيغشّ النّاس حتّى ولم يكن هناك من وجود للذّكاء الاصطناعيّ، ولكنّ هذه الوسيلة سهّلت له الطريق بوسائل مبتكرة ومتداولة بشكل مستمرّ فقط، ومن اعتاد أن يعمل بضمير، سيكتب ليقدّم عمله بصدق، مخلصًا في مشاعره، لأنّ هذه العفّة ترفُّعٌ للذّات عن المادّيّة، فالكثير يكتب للشّهرة، والكثير يكتب للكسب الماديّ، وليس خطأ، إنّما الخطأ في الانجرار نحو الانحراف والانتحال لأجل المادّة، ما يؤدّي إلى انحراف الأدب عن مساره الحقيقيّ، فإذا كان صاحب العمل منتحلًا، فأيّ رسالة يقدّم؟
وكذلك الأمر بالنّسبة للأبحاث الأكاديميّة، إن كنت تريد خوض أعماق البحث، فعليك أن تتحلّى بصفات الباحث الحقيقيّ، وأن تتميّز بشغف البحث، وإلّا فلماذا تقدّم هذا البحث؟ وما الفائدة منه؟ وإذا بدأتَ مسيرة بحثك بهذا الانتحال الخفيّ، فأيّ مسؤوليّة تحمل؟
أقول خفيًّا لأنّ من يريد أن يدقّ أبواب الانتحال ستُفتح له بسهولة وإن لم يطرق باب الذّكاء الاصطناعيّ، فالذّكاء الاصطناعيّ ليس عائقًا أمام الإنسان إنّما مساندًا له لو أتقن الإنسان استخدامه بضمير، ولو التزم حدوده وأخضعه لتطوير أفكاره وإبداعه، ولكن كلّ ما نقدّمه الآن هو إلقاء اللّوم على الذّكاء الاصطناعيّ، وهذا ما يُظهر ضعف الإنسان وخوفه أمام مواجهة هذه التّكنولوجيا الكبيرة الّتي إن لم نُخضها بحكمة ستجرفنا رغمًا عنّا، وعلى المسؤولين التّحرّك بشكل سريع لإدارة ما وصلنا إليه من تكنولوجيا، ولإخضاع الأعمال الأدبيّة والبحثيّة لبرامج تبرز مصداقيّتها، لأنّنا في زمن فقدنا فيه الثّقة في كلّ ما بين أيدينا، فلم يعد كاشف الانتحال في الأبحاث الأكاديميّة كافيًا فإنّها أصبحت بحاجة إلى برامج أخرى تكشف المبدع نفسه إن كان إنسانًا أو آلة، حيث يصعب التّمييز بين الحقيقيّ والمزيّف.
وختامًا فإنّ الانتحال ليس وليد اليوم، هو رفيق كلّ إنسان تخلّى عن ضميره، والتّكنولوجيا ليست عدوًّا للإنسان إلّا بما صنعته أيدينا، فهي تعمل بأمر من الإنسان، وتخضع له، إن شاء كانت سندًا له في الخير، وإن شاء أخضعها لتخريب الكون؛ والدّمار ليس فقط مادّيًّا أو جسديًّا، إنّما نفسيًّا وإنسانيًّا من خلال استخدامه لها في قتل كلّ مظاهر الحياة وتفكيك العلاقات الاجتماعيّة، والعائليّة، وصولًا إلى قتل الشّعور، والضمير. وهنا ما الّذي يميّز الآلة عن الإنسان في هذه الحالة؟ والأدب إن تخلّى عن حقيقته الإنسانيّة فما دوره في الحياة؟ حتّى وسائل التواصل الاجتماعيّ هل تؤدّي رسالتها الحقيقيّة في خدمة التّواصل أم أنّها وقفت عائقًا أمام التّواصل الحقيقيّ؟