دكتور عاطف الدرابسة
قلتُ لها
أُحبُّ أن أدخلَ مع نافذتي في حوارٍ أو نقاش ، أقفُ أمامَها وزخَّاتُ المطرِ توشوشُها ، فالمطرُ الذي يأتي في آخر الرَّبيعِ يُعيدُ ترتيبَ الفصولِ ، رُبَّما يكونُ أشبهُ بحُلمٍ عارٍ ، لا أعرفُ هل النَّافذةُ تُصغي لي ؟ أم تُصغي لهذا المطرِ ، الذي ينهملُ على الزُّجاجِ كأنَّهُ دموعُ الغريبِ ، أو الغائبِ ، أو المُعاتبِ ؟ أحياناً تبدو لي النَّافذةُ كأنَّها صفحةٌ في كتابٍ ، أو كأنَّها ورقةٌ تكتبُ عليها السَّماءُ خاطرةً بحروفِ المطرِ .
أقفُ أمامَ نافذتي ؛ وأرى خطواتِي تهربُ منِّي ، وعيني ترى أشياءً لا تُرى ؛ وكأنَّها تستجدي المطرَ أن يشرحَ لها ما ترى ، رُبَّما أرى خسائري تسخرُ منِّي ، رُبَّما أرى أيَّامي تُطلُّ من أعماقِ الضَّبابِ ، تنقلُ العزاءَ لما تبقَّى من العُمرِ
لا أعرفُ أينَ تأخُذني نافذتي ، فهذا الغيبُ لا يفتحُ لي صدرَهُ ، ولا يُساعدني أن أُحرِّرَ خُطايَ ؛ فأنا مُكبَّلٌ بقيدٍ من حديدٍ ، أو فولاذٍ ، أو نحاسٍ ، أحملُ شهوةَ حصانٍ يسعى أن يمتطي الرِّيحَ ، وتُحاصرني رغبةُ الامتلاكِ ، وأنا الفقيرُ إلى رحمةِ قلبِها
أقفُ أمامَ النَّافذةِ أتأمَّلُ حقولَ الفقرِ واليَباسِ ، وأمضي في سراديبِ النَّدمِ بلا قدمينِ ، أو عينينِ ، أسألُ تلكَ الحُقول عن ذاكرةٍ جفَّت ، عن صوتِ امرأةٍ يخرجُ من بينِ أنفاسِ اليأسِ
أُحاولُ أن أبحثَ عن طريقٍ مُستقيمٍ بينَ السَّحابِ ، لعلِّي أكونُ قريباً من البرقِ ، لعلِّي أشهدُ ولادةَ المَطرِ
أقفُ أمامَ النَّافذةِ أرى رُكامَ السَّنواتِ ، وأرى حُشودَ الخسائرِ تزحفُ نحوي ، كأنَّها القطيعُ ، أستحضرُ اللَّحظةَ كأنَّها عالمٌ من الجِراحِ ، أو الزَّيفِ ، أو الخداعِ ، أسألُ نفسي هل أنا من آلِ قلبِها أم أنا من الغُرباء ؟ أسألُ نفسي هل أنا الهاجرُ أم أنا المهجورُ ؟ هل أنا الظَّالمُ أم أنا المظلومُ ؟ هل أنا من أبناءِ مُدنِ الخوفِ والقهرِ ؟ هل أنا أحدٌ أم أنا لا شيء ؟
أقفُ أمامَ النَّافذةِ وحيداً أعزَلَ ، إلَّا من ذكرياتٍ تتناقصُ كأنَّها في حالةِ موتٍ بطيءٍ ، وأراني مريضاً بكِ ، مُبَلَّلاً بكِ ، مُلتفَّاً بكِ ، كُلَّما انحسرتِ عنِّي ، تمدَّدتُ فيكِ أكثر ، كأنَّكِ نورٌ ، كُلَّما ابتعدَ عنِّي أكثر ، تغلغلَ فيَّ أكثر
يا جمرَ الرَّحيلِ في دَمي ، يا انطفاءَة النُّورِ في قلبي ، ما زلتُ أُعبِّئُ الحنينَ في جِرار الرُّوحِ ، ما زلتُ أُعبِّئُ الشَّوقَ في كلِّ وريدٍ ، ما زلتُ أُوصلُ الوريدَ بالوريدِ ، ما زلتُ أسألُ شكِّي عن اليقينِ
كلَّما نأيتِ ، يزدحمُ في دَمي الحنينُ ، وكُلَّما صرختُ سالَ من صوتي لحنٌ قديمٌ : تعالي أنسجُ لكِ من شرايينِ القلبِ عباءةً كظلِّ النَّخيلِ ، تعالي أضُمُّكِ كأنَّكِ زهرُ الياسمينِ ، تعالي نحيا بالحُبِّ العتيقِ ، تعالي نشربُ معاً نخبَ اللَّيلِ
قبلَ الموتِ الأخيرِ