د. حسن مدن لصحيفة الخليج
طالما حيّرنا أمر العلاقة الملتبسة بين الذاكرة والنسيان. ما الذي ننساه بمرور الزمن وما الذي تحتفظ به الذاكرة؟
نعيد هنا ما قاله الكاتب الألماني باتريك زوسكيند، وهو يتحدث عن الحيرة التي انتابته وهو يتحدث عن رأي عالم نفس نمساوي لا يتذكر اسمه، عن الذاكرة. ليس اسم عالم النفس وحده هو ما لم يتذكره الكاتب، وإنما أيضاً أين قرأ ما قاله، في دراسة لا يتذكر عنوانها على وجه اليقين، لكنها ظهرت في كتيب صغير ليس متأكداً ما إذا كان عنوانه «الأنا والأنت» أو «الهو والنحن» أو «الأنا والذات» أو ما إلى هنالك، قبل أن يعدد أسماء عدد من دور النشر، يرجح أن الكتيب صدر عن إحداها، لكنه لا يتذكر عن أي منها تحديداً، حائراً حول ما إذا كان غلاف الكتيب أخضر على أبيض، أو أزرق فاتحاً على خلفية صفراء، أو أخضر على أزرق.. إلخ، لنخلص إلى أننا إزاء ذاكرة منقوصة حفظت جزءاً من المعلومة ونسيت الباقي.
حكاية تسعفنا في الإمساك بجوهر الحيرة التي تنتابنا حين نفكر في ما الحاكم في أمر التذكر والنسيان؟ ما سرّ هذه الانتقائية التي للذاكرة، تتذكر ما تشاء وتنسى ما تشاء؟
نحن اليوم إزاء دراسة علمية جديدة، لا نعلم ما إذا كان دافع من وضعوها هو الإجابة عن السؤال أعلاه، أو على ما هو قريب منه، ولكن ما خلصت إليه، مهمّ. يفيدنا التقرير الذي أورد نتائج الدراسة، المنشور على موقع «دي. دبليو» بأن باحثين سويسريين تمكنوا من فكّ شفرة واحد من أعظم ألغاز الدماغ البشري: كيفية تخزين الذكريات، ليخلصوا إلى أن الدماغ يقوم بتخزين ذكرياتنا ليس في نسخة واحدة فقط، بل في ثلاث نسخ مختلفة، تتباين في قوتها وثباتها عبر الزمن. التذكر والنسيان، إذن، ليسا مجرد عمليتين بسيطتين، بل هما نتيجة لدورة ديناميكية تعتمد على أنواع مختلفة من الخلايا العصبية تتعاون معاً للحفاظ على ذكرياتنا وتعديلها مع مرور الزمن.
يقوم الدماغ بإنشاء النسخ الثلاث من الذاكرة، وفق تلك الدراسة، داخل منطقة الحُصين، المسؤولة عن التعلم والتذكر، في مجموعات مختلفة من الخلايا العصبية تختلف في أعمارها، ثم تتطور، أي تلك النسخ، بطرق مختلفة: الخلايا الأقدم، التي تكونت في المراحل الأولى من النمو الجنيني، تحتفظ بالذكريات لفترات طويلة وتصبح أقوى مع مرور الوقت، أما الخلايا العصبية التي تكونت في مراحل لاحقة من الحياة، فتخزن الذكريات لفترة قصيرة فقط، قبل أن تبدأ هذه الذكريات في التلاشي. وهناك أيضاً مجموعة ثالثة من الخلايا العصبية التي تظل ذاكرتها مستقرة نسبياً، لا تتغير كثيراً مع مرور الوقت.