بقلم ليلى تبّاني ـ قسنطينة ـ الجزائر مقتطف من كتاب ” فيلوثيربيا ” الفلسفة إكسير الحياة .
هيليوبوليس … “Heliopolis” بين فخامة الاسم وهيبة المكان… وشّح القمر برقعا مخمليا لطيفا وهمس في قلوب العاشقين، من اليونان أو الرومان وجعلهم يسمّونها “مدينة الشمس”، وطال عشقها العرب لاحقا فسموها “عين شمس” أو مدينة النور نعم إنها كذلك، هليوبوليس. أو عين شمس. ما الذي أريد قوله عن هذا المكان؟ إنّي أحبه؟ هل سيكفي هذا التصريح؟ لا.. لن يكفيني بالطبع، ولا أي شيء غيره سيكون كافياً، حتى لو تحدثت إلى الأبد.
هنا حيث تتجلي روح المكان في أبهى صورها، ما اسم الملاك الذي يشد وثاقي إلى هذا المكان حتى أصبح هكذا.. مسكونة بالولع نحوه … تلك الروح التي تمتلك ضوءا داخليا، الضوء الذي تعرفه البصيرة الداخلية، وتعبر عنه بعالم من الألوان الرائعة، عالم ضوء الشمس، حيث التجسيد الأمثل لاسم هليوبوليس” مدينة الشمس”، تلك السّاحرة التي ينجذب إليها كل من رآها. إنّه في الواقع لا ينجذب إلى المكان الذي يحبّه لأنه ذو أبعاد هندسية فحسب أو لأنّه مكان عاش فيه بشكل موضوعي فقط. بل بكل ما في الخيال من تحيّز، فالخيال يتخيل ويغني نفسه دون توقّف بالصور الجديدة …لعلّ فكرة هذ التحليل مستوحاة من نظرية “غاستون باشلار ” حول جمالية المكان وفلسفة الصورة … ومن المؤكد أنّ ما سعى باشلار إلى توضيحه من خلال نظريته أن الصورة تبقى عالقة في الخيال بشكل أكبر من المكان ذاته، كون الصورة تسبق الفكرة، وأنّ الإنسان بذاته أخرس، والصورة هي التي تتكلم. لأنه من الواضح أن الصورة وحدها هي التي تستطيع أن تجاري الطبيعة. سأوضح في محاولة دؤوبة لإرضاء الولع غير المحدود، إلى أن أصل إلى نهاية ما، أو بالأحرى إلى بداية ما. إلى محطة ما.. أقابلها، فأكتفي إلى حين، تصل الصورة الجمالية للقارئ والزائر، وهل تراني سأنجح في نقل تفاصيل روعها ونسج سحرها إلى مخيال من لا يعرفها؟
وهل جمالية المكان هي التي جعلت زواره يهبون له هذا الاسم “مدينة الشمس” أم أنّ هناك صورة عالقة لا تفارق الخيال هي سبب التسمية وعشق المكان؟
لعلّ السبب الذي جعلني أكتب عن هيليوبوليس اليوم غير واضح المعالم، فقد يكون والأهم شوق وحنين إلى مكان تسكنه أعز صديقاتي وقد يكون إلى جانب ذلك تقصير التاريخ في نقل حقيقة جمال المدينة ثلاثية الأبعاد والجغرافية أو قد تكون غفلة قاطنيها عن مدى جمالها. … وبين هذا وذاك أستحضر حديث صديقتي وهي تصف مدينتها وترسم في مخيلتي ما كنت أظنها تبالغ فيه ، موقنة أنها لا محالة ستكثف الإحساس بأبعاد خفية، أبعاد تجلت حتى اختفت. ولعل السر وراء ما يضفي على هذه الكتابة سحر خاص، هو شغفي. لرؤية المكان حتى أطابق ما وصفت وطبعت من صورة في خيالي وما أراه بأمّ العين فيشفع لها ولكلّ من وصف مدينته النورانية وتغنّى بسحرها.
هيليوبوليس أحادية الاسم ثلاثية الجغرافية والأبعاد:
تترامى أبعاد المدينة بين الشرق والغرب أين يحاكي الجمال نفسه. إذ يقع البعد الأول على ضفاف نهر اللّيطاني في لبنان أما البعد الثاني فيقع على مقربة من نهر النيل بمصر، وبعدها الثالث يمتد إلى أرض الأمازيغ على ضفاف وادي زناتي في الجزائر .، فمن وجهة نظري الحضارة لا يمثلها الغرب أو الشرق بل يمثلها الإنسان القادر على تذوق الجمال أينما يراه. وإن لم يستطع أن يشارك بصنع الجمال فعليه على الأقل أن يحتفي به. قد يبدو غريبا أن يذهب المرء إلى مكان بحثا عن مكان آخر…. ونعود إلى التساؤل حول أسبقية المدن بالتسمية والوجود.
ــــ إنّ الأصل في تسمية المدينة يعود إلى أعرق الحضارات “الحضارة الفرعونية” و على نسمات زهرة اللوتس نسبت تسمية هيليوبوليس إلى مدينة ” أون” فالمتيم أفلاطون الذي رأى جمال مدينة “أون” وشبهها بمدينة آثنا ورأى فيها ما جعله و غيره يطلقون عليها اسم هيليوبوليس لانبهارهم بجمالها . ولعلّ تاريخ مصر يحمل قصتين مختلفتين لهليوبوليس، أولهما هليوبوليس القديمة التي أقامها سنوسرت الأول في المملكة الوسطي وهي مدينة أون التي تقع في ضاحية المطرية التابعة للقاهرة بزاوية منفرجة من خط المترو على حافة هليوبوليس الحديثة. أُنشئت هذه المدينة لتكون مجمعًا دينيًا كبيرًا، وقفت بها مسلتان رهبةً وسحرًا، إلى أن أتى أغسطس عام 12 ق.م لنقلهما إلى الإسكندرية لتُطوى هليوبوليس القديمة في ذاكرة التاريخ وتصبح طيّ النسيان. وثانيهما مولد هليوبوليس الجديدة على يد البارون إدوارد إمبان، كان مهندسا مدنيا بلجيكا يعمل بالتجارة ومشاريع النقل الكبرى، وكان يحلم ببناء مدينة جديدة كواحة خضراء في الصحراء على مقربة من القاهرة واختار معبد الشمس هليوبوليس القديم ليكون موضع ميلاد مدينته الجديدة عام 1900م. ومازالت المدينة تحظى بنفس الاسم إلى يومنا هذا كما سميت عليها أيضا أكبر جامعة بالعاصمة.
ــــ يقع البعد الثاني على مقربة من نهر اللّيطاني بلبنان وإن ذكرت لبنان فلا مناص أن تذكر عروس المدن وأعرقها “بعلبك ” مدينة الشمس … مدينة عريقة ضاربة في عمق التاريخ، عرفت الحضارة منذ آلاف السنين، وتوالت عليها حقب وثقافات متنوعة، مما جعلها من أهم المدن السياحية والتاريخية في المشرق العربي. إنها مدينة الشمس بعلبك التي رويت حولها الأساطير، وتميزت بآثارها ومعابدها القديمة وهياكلها الضخمة التي لا نظير لها. وقد شيد الرومان فيها معابد ضخمة، وآثار الرومان التي تجذب السياح تشهد على عراقتها وأصولها التاريخية العميقة، كما أنه يقام فيها الكثير من المهرجانات العالمية التي تستقطب أشهر الفنانين العرب والأجانب. …وقد تمّت تسمية المدينة قبل الكنعانيين الفينيقيين قبل آلاف السنين، تسمية المدينة قديمة اذ تم ذكرها في التوراة باسم بعلبق. وقد ذكر أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانية ” أن اسم المدينة هو سامي ومصدره كلمة “بعل” وتعني مالك أو سيد أو رب وكلمة بق تعني البقاع رافضا أن يكون اسم اله كما يدعي البعض لعدم وجوده في اللغات السامية فيكون معناها إله وادي البقاع . وهناك من عرب اسمها إلى مدينة الاله بعل وأطلق على المدينة أيام الرومان بالهيليوبولس أي (مدينة الشمس) عند الرومان وتحديدا باسم مستعمرة جوليا أغوسطا مدينة الشمس كما سماها الأمويون بالقلعة.
ــــ البعد الثالث يمتد إلى الغرب من القارة السمراء وبالضبط على أرض الأمازيغ (الجزائر )على ضفاف وادي الزناتي بمدينة قالمة الجزائرية . تقع مدينة الشمس هيليوبوليس تميزها سهولها الخضراء، والينابيع الحموية المعدنية المُذهلة، يجد السائح نفسه بين أسطورة تتنفس جمال الطبيعة وسحرها ….وتعود هذه التسمية إلى خمسينيات القرن التاسع عشر عند زيارة الإمبراطور نابوليون الثالث تيمنا بهيليوبوليس المصرية التي غزاها قريبه نابليون بونابرت في حملته على مصر عام 1801. كما أن للآثار الرومانية أثر في هذه التسمية خاصة المسبح الروماني الذي يعد تحفة رائعة. ….تتميز المنطقة كونها بوابة قالمة باتجاه الشمال عنابة وكونها كذلك مصدر مياه سطحية وجوفية مما جعلها محط أنظار وأطماع الغزاة منذ القدم لخصوبة الأراضي ووفرة المياه واعتدال المناخ وموقعها الاستراتيجي ووجود ينابيع حارة بالمنطقة حمام برادع، حمام أولاد علي.
وبين زخم الجمال وتماهي الأوصاف مازالت مغازلات صديقتي لمدينة الشمس تراودني، خاصة وهي تهرول للعودة… بقولها أمّي تنتظرني في “البوليس”، سأظل أتحين الفرصة لزيارتها وأنا أعذر أفلاطون ونابليون الثالث على عشقهما لها ….واستشعر هيام الرومان في عشق مدن النور والإشراق.