
عندما رجع خالي من البرازيل في زيارته الأولى إلى لبنان منذ تركه، طلبت منه جدتي أمراً غريبا، كان بمثابة رجاء بل وأمنية عبقت في قلبها طوال سنوات غيابه. طلبت منه أن تحمّمه!
خالي الأربيعيني في ذلك الزمن من سبعينيات القرن الماضي ، المليونير والمحامي المعروف في مدينته، وزوج الإيطالية تيريزينا لم يفهم طلب والدته الغريب. لكنها أصرّت! تركها إلى كوبا وهو في الحادية عشر من عمره ليشقّ طريق مستقبله بنفسه وهي عزّ عليها فراق طفلها الذي لم يبلغ حينها بعد!
امتثل خالي لرجاء جدتي مريم، لبس سرواله الداخلي وترك ليديها مهمة محو بقايا عقدة الذنب التي رافقتها!
تعاكسني هذه القصة في أحيان كثيرة. أفكر به.
أفكر بخالي الذي ترك أهله في ذلك السن اليافع وانطلق في البحر متجها نحو أقربائه الذين سبقوه إلى كوبا، كي يبدأ من هناك. يبدأ ماذا تحديداً؟ لا أعرف!
ماذا فكّر وهو على متن الباخرة التي أقّلته. هل تعثّرت قدماه الصغيرتان وهو يعتلي سلّم الباخرة؟ هل نظر خلفه، وهل رافقه جدي او جدتي إلى بيروت؟ أعَرِف انه في عمر الحادية عشر أصبح مهاجراً رسمياً وبلغ سن الرشد!
حقيقة أنا أفكر تحديدا بعينيه وكيف اتسعت لزرقة البحر ورحلة أشهر كثيرة فيه، ثم ماذا رأت في كوبا في زمن لم يعرف الصورة حينها إلا الأبيض والأسود منها في استوديو وحيد( يُخيل إليّ) في زحلة كان يضمّ وجوه أهل البقاع كلهم.. ماذا أكل في كوبا لدى وصوله؟
هل حمل معه زعتر جدتي البلدي، وأكواز التين المعقود، وكريات لبنة الماعز، ومرطبان الزيتون الأخضر، ورائحة التنور في بضعة أرغفة؟
لا! يستحيل ذلك، في رحلة البحر الطويلة تلك، لن تصمد أنفاس جدتي ولا دعواتها في الطعام الذي يصبح في وقت ما الوطن كله بالنسبة لنا نحن المهاجرين!
لو تعرف أمي كيف مرّ رمضان هذا العام عليّ دون دبس الرمان والنعناع والسمّاق من غلّة يديها!
فقد الفتوش طعمه يا أمي،
وكذلك فمي!
حين وصلت كندا، قبل السوشيل ميديا بسنوات قليلة، اذكر أنني فتحت الشباك في منزل عمي ونظرت إلى الخارج.. كانت الشمس قد أشرقت لتوّها، وكنت قد وصلت في الليلة السابقة. بدت الأمور ملونة في ذلك اليوم الثاني من شهر تشرين الأول. العشب الأخضر لفتني وكذلك الحدائق الأماميّة المرتّبة بألوان الزهور التي تصارع انفاسها الأخيرة في هواء تشرين العليل..
لكنني لم انبهر! فلقد كان لدي تصوّرات مسبقة عن مكان رأيت ما يشبهه في أفلام هولييود وفي صور أقربائي التي كانت تصلنا من كندا. في تلك الفترة تشاركت مع أمي الفراش في منزل عمي، ولعلّها كانت فرصتي الأخيرة كي أعود طفلة في حضن أمي قبل ان انتقل إلى حضن من سيصبح زوجي!
حتى بعد زواجي، كان لي رجاء وحيد بأن أنام ليلة أخيرة بقربها قبل عودتها إلى لبنان وتجريدي كلياّ من شعور طفلة أمي الصغيرة!
كبرت كثيراً منذ ذلك اليوم، ورغم زياراتي المتكررة لأمي لكننا لم نعد نتشارك الفراش، بل دخَلت فراشي
صغيرتان جعلتا مني أمّاً، حتى صرت أفهم شعور جدتي مريم ورغبتها تلك اكثر.. وأفهم بكاء أمي كلما اتصلت بها اكثر.. وكلما شعرت بإحباط ما ناديت إحدى بناتي كي تنام جنبي. وتبنيت قطة كذلك وصرت أمها لإشباع هذه الحاجة الملحة!
هي الأمومة!