القاص : محمد ياسين خليل الأقطع – مصر
حزيناً مهموماً مُطأطئَ الرأس، بعد لحظاتِ رَفعَ رأسَه ، أسندَ ظهرَه إلى المَقعد وهو يزفرُ زفراتٍ مَصحوبةً بتنهداتٍ مُتقطعةٍ، وقعتْ عيناه على اللوحةِ المُعلقةِ على الجدارِ الذي أمامَه ، بدأ يتطلع إليها طويلاً مع أنّه مَنْ ابتاعها، وانتخبَ لها هذا المكان َ.
يتأمل اللوحة، يَحِدّ البَصَرَ إلى وجه الفتاة الذي يتوسطُ الإطار، يُنقّلَ نظراته بين تفاصيلِ وجهِها ، يُطيل النظرَ إلى شعرها الأسودِ الفاحمِ المسترسل ِكخيوطِ الحريرِ على كتفيها ، ثم عينيها وما يكتنفهما من غُموض، وما فيهما من بريقٍ ، ثم أنفِها المستقيمِ الحادّ من أعلاه المعقوف من منتصفِه .
تأملُه وجهَ الفتاة طالَ، يُخامرهُ ظنٌّ أنه يعرفها من قبل ، لماذا اختارَ هذه اللوحةَ من مَعْرِض الرسام ؟! وليستْ لوحةً أخرى ! كانت عنده لوحاتٌ كُثُر أخريات ، لا يدري .
ما كاد يدلف المعرض حتى طالعَ هذه اللوحة، أو طالعتْه اللوحةُ ، نظر إلى وجهِ الفتاة في اللوحة، مدّ يدَه برفقٍ، وحذر، حملَها، نقدَ صاحبَ المعرض ثمنَها ، ورحلَ في سلام ٍ وهو مُتأبِطُها في حرصٍ .
آبَ إلى المنزلِ ، أخرجَ اللوحةَ من مظروفِها الورقي بهدوءٍ ، اختارَ الجدارَ المقابل لمَقعده المحببِ، ثبّتها، لأول مرة اليومَ يلاحظُ أنها ترتدي نظارةً شفافةً، كيف لم يلاحظْ ذلك من قبل ؟! سأل نفسَه، أخذ يضربُ كفاً بكفٍ، ويُقهقَه في سُخريةٍ من نفسه .
عاودَ النظرَ إلى اللوحة مرةً أخرى علّهُ يجد شيئاً آخرَ في الصورة لم يفطنْ إليه، تفرّسَ في وجهِ الفتاة، للمرةِ الثانية لاحظَ أنها تحاولُ جاهدةً أنْ تبتسمَ ، لكنّ شفتيها تأبيان الانفراجَ ، كأنهما خائفتان من مُتربصٍ بهما شراً إنْ فعلتا .
ابتسمَ لها مُمسكاً بطرفي شفتيه بإصبعيه السّبابةِ والإبهام ِ مُتقْهقِراً بهما صوبَ عظمتي فكيه ناظراً إلى شفتيها وعينيها داعيهما إلى الانفراج، يحثّهما على تقليده ، ومجاراته ، لا بأس من المحاولة، هكذا يخاطبها ، لكنْ هيهات، لم يُفلحْ ، عادَ يضرب كفاً بكف ، ويُقهقه في سخريةٍ .
عيناه حاولتا العودةَ إلى اللوحة، لكنّه خشِيَ أنْ يتفرسَ في الصورة لمرة ثالثةٍ مخافةَ َأن يجد فيها شيئاَ آخر غفلَ عنه ، لكنّ همساً قاهراً في صِوان أذنِه يدعوه بإلحاحٍ إلى النظرِ إليها ، يشعرُ بحرارةِ الهامسِ، لكنّه لا يجرؤ .
ارتدى ملابسَه على عَجَلٍ ، لم يراعِ تناسقَ الألوان كعادته ، الذي وقعتْ عليه عيناه استلّه، دثرَ به نفسه ، انطلق إلى شاطئ البحر، أو انطلقتْ به قدماه إلى شاطئ البحرِ القريب من منزله ، لا يعلم لماذا إلى شاطئ البحر ؟! وليس إلى مكانٍ آخر ، فكلُ الأماكن سواء .
أجلسَتْه قدماه على مَقعدٍ خشبي خلفَ مِنْضَدة حجرية، يتأملُ المتواجدين حوله ، منهم الأطفال الذين يقودون الدراجاتِ، ويتحدون بعضَهم في السرعةِ والحركات الخطرةِ، وهم في هرجهم تتعالى ضحكاتهم ، ومنهم مَنْ يمارس رياضةَ الركض والهرولة ، ومنهم من يطالع الأمواج ، وأحدهم اتّكأَ على عصاه ونام .
حتى هذه المرأة التي طعنتِ في السنَّ ، تُسابقُ مَن ْبِرفقتِها بقدميها المُعوجتين النحيلتين وهي تضحك ، وتؤكد أنها سوف تسبقهن ، فهن مجردُ خيالات على عظام هشة .
وهذا يُسرع الخطى مُنفرداً كأنه هاربٌ مُطاردٌ مِن ذِي حقٍّ يدينه ويطالبه بالسداد؛ فيجبر قدميه على الركض والفِرار، وتلك تمسح دموعها، وترفع يديه إلى السماء ، وتُتمتم بكلمات مخنوقة ، وهؤلاء يمشون جماعات يتحدثون بأصوات متداخلة عالية .
وسط َهذا الضجيج الذي يُحدثه مَنْ حوله على الشاطئ ، تلتقط أذناه ضحكاتٍ عاليةٍ آتيةً ًمن خلفِه ، لا يعلم عِلةَ ضحكاتهم، ضَحِك مثلهم ، ثم توقف ، كما توقفوا ، أصوات الباعة الجائلين الذين يَغرون الجميعَ لشراء سِلْعاتهم تعلو، حتى أصوات الأقدام المهرولة على الأرض الحجرية صافحتْ أذنيه بدبيبها المُنغم ، أخذَ يدب بقدميه على الأرض مثلهم .
صوتُ بكاءِ الطفل الذي وقع من فوق دراجته أخافه ، الدمُ يسيل من رأسِه، مدّ يده بسرعة إلى رأسه يتفقدها لم يجد دماً ، ضَحِكَ من نفسه ، وضرب كفاً بكفٍ .
فجأةً شاهدها تَبْزغُ من وسط هذا الزحام تمشي في سكينةٍ، في خطواتٍ رتيبةٍ مُتناسقةِ الطولِ، تتوشح بوشاحٍ بُنيِّ اللون، توجهتْ نحوه دون غيره، نظرتْ إليه، نظرَ إليها ، ابتسمتْ ابتسامةً ًخفيفةً، عدلتْ من نظارتها، أحكمتْها على أنفها المستقيمِ الحاد من أعلاه المعقوف من منتصفه، سدّدَتْ النظر إلى عينيه، أومأتْ إليه برأسها، فَهِم أنها تريدُه أنْ يتبعَها ، أوْمَأَ برأسه مُطيعاً .
سارتْ إلى الجادةِ المؤدية إلى منزلِه ، سارَ خلفها ، أسرعتْ قليلاً، أسرعَ قليلاً، أبطأتْ ، أبطأ ، مدتْ يدها وفتحتْ بابَ منزلِه ، دلفتْ ، دلفَ خلفها ، توجهتْ إلى اللوحةِ المُعلقةِ على الجدار المقابلِ لمقعدِه الأثير، نظرتْ إلى اللوحة لبرهةٍ، ونظرتْ إليه ، ثم ارتفعتْ في الهواء لأعلى مُتحولة ًإلى ضبابةٍ بيضاء تتلوى في هدوء، تصعد إلى أعلى رُويداً … رُويداً، اقتربتْ الضبابةُ من اللوحة ، في لحظات كانت داخل الإطار الخشبي ، تنظرُ إليه من خلال نظارةٍ شفافةٍ ، وابتسامة خفيفةٍ، وأنفٍ مستقيم حادٍ من أعلاه مَعقوفٍ من منتصفِه .
على مَقعده هوى بعد أنْ خذلته قدماه مما رأى، أخذَ يتأمل اللوحةَ، يضربُ كفاً بكف ، يُقهقَه في سخرية ، أشاحَ بوجهه عن اللوحة رافضاً أن يتفرسَ الوجهَ مخافةَ أن يجدَ شيئاً آخر لم يكنْ فطِنَ إليه من قبل .
شيءٌ ما حركَ وجهَه تُجاه اللوحة، عادَ يتأملها ، يدققُ النظر فيها ، فَغَرَ فاهُ ، علته الدهشةُ ، تجمعتْ بعضُ قطراتِ العرقِ على جبهته ، انتصبَ واقفاً مُقترباً من اللوحة اقتربَ أكثر، فأكثر .
شاهدَ الإطارَ فارغاً بدون الوجهِ ، ضرب كفا ًبكف ، قهقَه في سُخرية ، عادَ ليجلسَ على مَقعدِه الأثير مقابلَ الإطار… ينتظر .
الشكر للأديبة المبدعة والشاعرة الرقيقة : إخلاص فرنسيس على إصدار هذه المجلة الثقافية الرائعة ، وما تتطلبه من جهد كبير ودائم .
دمت بخير سيدتي .
تحياتي لقلمك، وشكرا لك على القصة الجميلة
رائع والف
تحياتي لمرورك
امتناني للشاعرة المبدعة : إخلاص فرنسيس ، وليس ذلك بغريب عليها ، فهي الأديبة والشاعرة والروائية ذات القلم الرشيق ، والغكر العميق .
والعرفان للأديب الكبير : حسين بن قرين لمروره الكريم وقراءته القصة .
دمتما بخير .
امتناني للشاعرة المبدعة : إخلاص فرنسيس ، وليس ذلك بغريب عليها ، فهي الأديبة والشاعرة والروائية ذات القلم الرشيق ، والغكر العميق .
والعرفان للأديب الكبير : حسين بن قرين لمروره الكريم وقراءته القصة .
دمتما بخير .
مَن يقرأ النصوص الجميلة لمبدعنا الكبير تسحره اللغة واختيار المعاني المعبّرة عن لقطة السرد بفنية عالية بحيث يجذب القارئ إليه .
حين قرأت نصه عن اللوحة جعلني هذا الذوق والتواصل الفني اكون معه ورحت ابحث عن لوحة في داري أتأمله فيها.
غريبة قدرته العالية لا ينفكّ القارئ منها!
تحياتي لك والتقدير لمرورك