الكاتب مروان ناصح
في ذاكرة كل من عاش “الزمن الجميل”، ثمة وجوه لا تُمحى… لا لأنهم قالوا الكثير، بل لأنهم كانوا هناك، بهيبة صامتة، أو بحنان طاغٍ، أو بنظرات لا تُشبه الزمن إلا في أصالته.
-الجدّ، مثلاً:
كان يشبه شجرة زيتون عجوز. قليل الكلام، لكنه إذا قال، صمت الجميع. لم يكن يعرف شيئًا عن “علم النفس”، لكنه كان يعرف متى يصمت الطفل، ومتى يذبل، ومتى يكذب. وكان يملك ذلك الكرسي الخشبي الذي لا يجلس عليه أحد. مكانه في البيت كما صورة الوطن على الجدار.
وكان يعرف قصصًا لا تنتهي… عن الحروب، والقمح، والحصاد، والرجال الذين كانوا يوفون بوعدهم ولو بعد خمسين عامًا.
-الجدّة:
هي قلب البيت. كانت تجيد الدعاء كما تجيد خبز التنور. لا تتعلم من كتب الطب، لكنها تُدلك قدم الطفل المريض وتتمتم بشيء من “الماء المقروء”، فينهض كأن ما كان فيه مجرد خوف. تحمل المفاتيح في ثنايا ثوبها، وتعرف كل اسم في الحيّ، وكل نغمة من بكاء الطفل، وكل تفصيلة في عشاء لم يُجهَّز بعد.
-الخال:
هو “الرفيق السري”. ذاك الذي يهرّب لك الحلوى في يدك، ويُضحكك في مجالس الكبار، ويصنع من الممنوع لعبًا.كان قاطع التذاكر إلى العالم الآخر، حتى لو لم يسافر يومًا. يجلسك على كتفه في الأعراس، ويضعك في جيبه حين يزور المدينة. له ابتسامة لا تتكرر، تشبه وعدًا لا يُقال.
-الأب:
كان ظلًا طويلاً يمشي في البيت. له خطوات تُعرَف قبل أن يصل، وصمته جزء من التربية. ربما لم يقل لك “أحبك”، لكنه صنع لك دفتراً وقلماً وبيتاً وأمانًا… وكان ذلك يكفي. حين يحلق ذقنه في الصباح، يبدأ اليوم فعلاً، وحين يغضب، تنكفئ الشمس قليلاً.
-الأم:
ليست فقط الحاضنة، بل هي التاريخ الشخصي الكامل. كانت توقظك باسمك لا برنين ساعة، وتعرف ما إذا كنت مريضًا من نظرة واحدة. لها يد تشبه الندى، وصوت يُصلح القلب وإن عاتب. كانت تحفظ مقاساتك، وهمومك، وخوفك من المعلمة، وبكاءك الذي تُخفيه.
-وكان هناك العم، العمة، الجارة التي تدخل دون إذن، والخالة التي تأتي مع الحكايات والمربى…
كلّ هؤلاء شخصيات من مسرح كبير اسمه “العائلة”، ذاك المسرح الذي كان يُعلّم قبل المدرسة،
ويربّي قبل الخوف، ويُطمئن قبل اللغة.
