-” عقلك عقل سمكة”
بهذه الجملة كانت أمي تنهي موشّح التوبيخ الذي يعقب كلّ شجار بيني وبين أخي الذي يصغرني قرابة العامين, لا أدري لِمَ كانت هذه العبارة الزائدة توجّهها لي وحدي, رغم أنها كانت عادلة في توزيع جمل وألفاظ التقريع بيننا بالعدل, وبالتناوب, لكنّ هذه القفلة المسرحية كانت تخصّني وحدي, وكأنّها تنهي النتيجة لصالح أخي في كلّ مرّة, وفي كل مرّة أجيبه:
-” وما يدريك؟ قد تكون أمي لا تحبّ السمك, لكن مؤكّد أنّها لا تطيق الضفادع”.
أرفع رأسي بعدها بشموخ و أنفة, أتسلّل إلى غرفة أمي وأقف أمام المرآة أتأمّل وجهي, أحاول أن أجد السمكة التي جعلتها أميّ تستقر في عقلي! أقيس جبهتي بالأصابع و كذلك رأسي من الناصية حتى القفا لأحسب حجم السمكة التي تستقرّ فيه, و لو افترضت أنها تسكنه حقيقة, كيف تجلس؟ بالطول أم بالعرض؟! يباغتني ردّ أميّ وكأنّها ما يجول بخاطري:
– “ليست السمكة بكتلتها الكاملة من تحتل ّعقلك, وإنّما مخّها, عقلها الصغير الذي لا يزيد عن حجم حبّة الحمّص الصغيرة, هو ما يملأ رأسك!”.
قصف آخر ينالني منها, لأضيف إلى قاموسي المعرفي معلومة جديدة!.
سقط رأسي في جزيرة صغيرة لا تتعدّى مساحتها الكيلو متر المربع الواحد, تقابل مدينتي الساحلية التي أقطن فيها حاليًّا, وتبعد عنها حوالي ثلاثة كيلومترات, لذا لم أجدني في غربة حينما نزلت من محيطي المائي الرحمي إلى محيطي المائي الصخري, كما لم أشعر بتلك الغربة حينما انتقلت إلى البرّ الشرقي المقابل لجزيرتي, متزوّجةًّ من قبطان جبتُ معه البحار و المحيطات قبل أن يرزقنا الله أولادًا يحتاجون إلى الوقوف على أرض صلبة كي يتمكّنوا من الوقوف بلا تمايل والجري فوقها! و تحتّم عليّ رعايتهم والجري معهم فوق الإسفلت و البلاط و الرمل, بينما بقي زوجي يمشي فوق الماء, يشقّ عباب المحيطات مقاسمًا حيتانها سطح عالمها دون العمق, إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تصارع فيه البحر و الريح, بحرب ضروس كحروب التحرّر التي لا يدفع فيها الثمن إلّا مساكين الشعوب, وقعت السفينة في مهبّ الريح,
فاستنقذها البحر منها, وغاص بها عميقًا ! انتشلها من الريح الهوجاء ليلقي بها بكلّ مَن وما حملت طعامًا لشعبه بتنوّع زمره الأحيائية! أتخيّل دومًا كيف تبدو الطحالب البحرية متماهية بين الأصفر والأخضر كحقول القمح والبرسيم وهي تغلّف وجوه الغرقى! وكيف تعفّ عن عيونهم التي جحظت مخيفة كخيال المآتة, و هي التي احتلّها الرعب بعد أن نزع منها آخر بريق أمل… كيف تتحوّل الوجوه الآدمية لتحاكي وجوه سكان العالم الجديد, مع فارق بسيط, العيون الآدمية لا تتنازل عن جفونها, تدافع عنها بشراسة, فلا تغنم الأسماك أجفانَا ولا أهدابًا, ولا تنعم بالنوم القرير… أبقى أنا على قيد الأمل, أحلم بهذا القرير, أنتظر أن يحقّق الله يقين أمي فيَّ, ويمنحني ذاكرة سمكة!.