الحديث عن الأستاذ محمد اقبال حرب شائك وشائق، لأنّ القارئ لنتاج أديبنا يشعر للوهلة الأولى أنّه أمام عالم روائي بعيد من الواقع، فأعماله تراودنا عن أفكار تأخذنا إلى عوالم بعيدة، منها ما نخشى اقتحامه خوفًا من أن تجرفنا إلى ما لا نشاء، ومنها ما نقف منها موقف الرّافض، ومنها ما تجعلنا نستلذ رمزيتها التي تضع يدها على الجرح وتضع يدها على الحقيقة التي قد نعلمها أو لا نعلمها. وبغض النّظر عن موقفنا فإنّه يجذبنا إلى قراءة نتاجه.
أما الشّائق فيتحقّق من خلال الاستمتاع بعالمه الإبداعيّ، والحقيقة المؤكدة التي لا نستطيع نسيانها هي تميّز أديبنا بأسلوب شاعريّ جميل ودفق عاطفيّ، مع اعتماد تقنيات السّرد والحوار والوصف، مع إبداع الكاتب في رسم شخصيات عالمه السّرديّ، التي نسجها من خياله وأسقطها على هذا الواقع.
هذا من الجانب الإبداعيّ عند محمد إقبال حرب، أمّا على المستوى الشّخصيّ فيمكن القول بأنّه من الأشخاص الباحثين عن الحقيقة والداعين إلى رفض الظّلم وينشد الحريّة التي تحقّق الإنسانيّة.
معرفتي بمحمد إقبال حرب بدأت من خلال التفاعل الأدبيّ، لكن اجزم أنّ معرفته غنى إنساني واجتماعيّ وإبداعي أدبي.
وأديبنا في روايته التي بين أيدينا تسير على خط روايته السّابقة أي رواية “الحقيقة”، فقد تكون هي الجزء الثّاني لها، وكأنّنا مع محمد اقبال حرب نتّجه إلى ثنائية قد تصل إلى ثلاثيّة، كما وجدناها مع ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين/ قصر الشّوق/ السّكريّة)، أو مع ثلاثية سهيل إدريس(الخندق الغميق/ الحي اللاتيني/ اصابعنا التي تحترق).
وإذا لم يضع محمد إقبال حرب في عتباته النّصيّة إشارة إلى أنّ هذه الرّواية هي الجزء الثّاني من رواية “الحقيقة”، فإنّه في توطئة الكتاب يقول “بعد معركة المناقير الكبرى، تفرّق من بقى حيًّا من بني دجاجة شيعًا وأفرادًا لسنوات طوال حتى بدأ الدّيك سهم الذّهبيّ بجمع الشّتات في أرض الوطن التي نشأ عليها “سهم” العظيم”. وفي ذلك إشارة إلى رواية الحقيقة، مع قدرة المتلقي على قراءة الرّواية التي بين أيدينا من دون الحاجة إلى قراءة الرّواية السّابقة، ففي هذه التّوطئة التي نعدها ضمن الفضاء النّصيّ للرّواية، يفتح الكاتب المجال أمام المتلقي.
والفضاء النّصيّ كما ذكر ميشال بوتور يعني الحيّز المكاني الذي تشغله الكتابة نفسها على مساحة الورق، لكن محمد إقبال حرب استطاع أن يجعل هذا الفضاء النّصي أكبر من حدوده الورقيّة الخاصّة بهذه الرّواية، فهو يمتدّ إلى عالم الحقيقة، وأيضًا إلى أرض الواقع.
ونقل الكاتب هذا الواقع بالتّرميز، واعتمد شخصيّات غير إنسانيّة، إنّما هي شخصيات من عالم الطيور الدّجاج خصوصًا. إذا نحن أمام حكاية تشبه حكايات كليلة ودمنة، هذا السّفر العظيم الذي جاء من أصوله الهنديّة، وأعاد صياغته الكاتب العباسيّ ابن المقفع، وقد تخفّى هذا السّفر وراء عالم الحيوان ليعبّر عن قضايا جوهريّة. وهنا ندخل في عالم الرّمز كَمكون جماليّ وقيمي منح العمل السرديّ عمقًا مجازيًّا بعيدًا من أساليب الواقعية، وانعكس ذلك على بنية النص القصصي الذي تجاوز الجزئي الضّيق إلى المطلق الشامل لتجنب الوقوع في مأزق التعبير المباشر وهكذا امتلكت صياغة جديدة وثيمات متميزة، احتل فيها الرّمز مكانة أساسية متصلة بإثبات فلسفة الذّات من خلال محاورتها لظلال الواقع.
والتّساؤل هنا بأنّ الفيلسسوف بيدبا واضع كليلة ودمنة قد لجأ إلى الرّمز هربًا من بطش الملك دبشليم، فلماذا يلجأ محمد إقبال حرب إلى الرّمز في زمن باتت فيه الآراء أكثر جرأة، والنّفوس أشدّ اتّجاهًا إلى الواقع،
وقد نرى أنّ هذا الاتّجاه لم يقتصر على السّرد العربي، فهذا جورج أورويل في راويته مزرعة الحيوان، يقدّم هجاءً ساخرًا ونقدًا للأنظمة الشّموليّة ولإنسان السّلطة وانحرافاته، ويحاول أن يقدّم تحليلًا واقعيًّا للثورة، ولعلّ هذا ما يدفع محمد إقبال حرب إلى الاستمرار في هذه الرّمزية التي اتّبعها في روايته الأولى، فهو لا يريد أن أن يحصر المكان ببيئة معيّنة أو زمان محدّد، بل هو يفتحه على أفق واسع، فيكون المكان المتخيّل الذي ينتجه الخيال، لكن عبر ترميزه وتأويله يمكن أن يعبّر أكثر، فالتّرميز “أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرًا من الحقيقة الواقعة”، وهوأكثر شعبية من الحقيقة الواقعة.
وبذلك يتحدّد لنا المنظور الزّمكاني الذي طرحه الباحث الرّوسي أوسبنسكي عن مستويات المنظور، فهذا المستوى يعني الموقع المحدّد زمانًا ومكانًا.
وإذا قسنا الرّواية وفق المستوى التّعبيريّ أي الأسلوب الذي تعبّر الشّخصيّة عن نفسها، فإنّ الكاتب استخدم لغة تناسب شخصيّات روايته التي هي من عالم الدّجاج، فاستخدم لغة الدّجاج وجاء الحوار متناغمًا مع قاموس الدّجاج: البيض الكلسي- العرف المقدس-دورات تفقيسيّة- تنقّ نقًّا خفيفًا- العرف الكبير- الدّيك الذهبيّ- صيّاح – وحتى الصّلوات تحوّلت إلى صلوات النّق السابعة، جهاد السّفاد وهي لغويّا تشير سفد الحيوان أنثاه أي مجامعتها، وغيرها الكثير، بل إنّ الأسماء تشير إلى هذا العالم: نقار- بياضة – ضجّاج- ودّان، فيتحقّق المنظور النّفسيّ وهو الزّاوية التي يقدّم فيها الكاتب العالم التّخييليّ، ويكتمل المشهد في الحواريات في الرّواية، وفي قدرة الشّخصيّات أن تكشف عن مشاعرها وأفكارها، فحمّلها كلّ ما يمكن للإنسان أن يشعر بها لكن ضمن قاموس ينتمي إلى عالم الدّجاج، وهو بذلك يستند إلى تقنية مهمة وهي الأنسنة والتّشخيص.
وفي البحث عن المنظور الأيدولوجي وهو منظومة القيم التي تحكم الشّخصيّة من خلالها على العالم المحيط، فإنّ الرّواية تقدّم لنا قصّة الحضارة الإنسانيّة، وفي فكّ رموز الحكاية ندرك ما قدّمته من أفكار تحاكي الحياة من مطامع السّلطة إلى مسألة الطّائفيّة وتقدّم قضايا فكريّة والاختلاف بين الحضارات، وكأنّنا مع أديبنا يريد أن يسقط رمزيّته على الأنظمة الفاسدة كلّها، ولعلّه عبر التّرميز يحاول أن يقدّم رسالة إلى الشّباب مستخدمًا حكايات عن الحيوان، فيقدّم رؤيته الأيدولوجيّة بصورة غير مباشرة، ويتخفّى وراء عالم الطّوير طارحًا أفكاره من دون أن يشعرنا بتدخله كونه الرّوائي، أنّما يترك للراوي العليم في الرّواية أن يدخلنا في رحاب السّرد.
وممّا قدّمته الرّواية رمزية العرّافة، وتتبّع هذه العرافة ذات المنقار القاني أوّلًا ثمّ الأسود، ندرك أنّها دلالة رمزيّة إلى القوى العظمى المسيطرة على العالم، فلعنتها أقوى من كل الأسلحة كما جاء في الحوار الدّائر بين عالم الّدجاج، واللافت أنّ هذه صفة القاني لازمت منقار العرافة إلى أن تغير في ختام الرّواية إلى المنقار الأسود، وهذا ما يدفعنا إلى التّساؤل عن رمزية هذا التّغيير في اللون، وهذه العرافة التي احتلت أيضا غلاف الكتاب الذي يعدّ جزءًا من الفضاء النصيّ، إضافة إلى أنّ الرّواية بعنوانها اشارت إلى سواد منقار العرافة، وهذا ما يثثير التّفكير عند المتلقي ويشوّقه إلى اكتشاف الأبعاد الرّمزيّة لهذه العرافة، التي ندرك كلّنا أنّها التي تتكهن المستقبل، وتستشرف المستقبل للحاضر، وماذا أراد الكاتب من موت انتهاء العرافة ذات المنقار القاني لنصل إلى العرافة ذات المنقار الأسود، إنّ في ذلك إشارة إلى أنّ قوى الظّلم مستمرة، وستجد طريقها إلى فرض سيطرتها، وكأنني بالكاتب قدم رمزية لأمريكا عبر هذه العرافة، وقد أسمح لنفسي خصوصًا مع مرافقتي للكاتب في كتابة الرّواية أنّه يشير إلى كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، من هنا فإنّ لمزية التّغيير في اللون يشير إلى أنّ من سيحلّ مكان الأولى سيفعل الأسوأ، وتقدّم الرّواية إشارة إلى هيمنة المحفل الماسوني، فتقرّ العرافة كما يأتي الكلام على لسانها أو منقارها بحسب لغة عالم الدجاج: “بل تجاوزت سيدتك وأسيادها، أنت تعلم بأنني في مرتبة أعلى منك ولا يمكنك أن تتجاوزني. لكن وحسب القوانين التي تحكم مجمع السطوة العالمي علينا أن ننتظر أوامر الجوهرة المكنونة”.
ووفق المنظور الأيدولوجي أيضًا تعرّج الرّواية إلى البعد العنصري لفئة من الدّجاج، وعنصريّة الكيان النّبوتي، وما جاء في الكشكول المقدس، وفي ذلك ترميز إلى الكيان الصّهيونيّ واغتصابه أرض فلسطين بشعار اتّخذوه بأنّهم شعب الله المختار.
وقد يطول الحديث عن مستويات المنظور في الرّواية ولعلّ المقام لا يسمح بذلكن فما أتيت على ذكره هو إشارات سريعة، وفي ختام مداخلتي لا يسعني إلّا ان أقول بأن الكاتب محمد إقبال حرب استطاع في روايته هذه أن يقدّم لنا رواية متكاملة البناء وفق تقنيات السّرد بلغة جميلة ماتعة تأخذنا إلى عالم الدّجاج فنعيش بين النقّة والنّقة لنعود بعدها إلى عالمنا الواقعي ونبحث في الدّلالات المتعددّة مستندين إلى مستويات المنظور وفق أوسبنسكي معرّجين على المنظور الإيديولوجيّ، والنّفسي والتّعبيري والزمكاني.
كلّ التمنيات لأديبنا محمد إقبال حرب بالتوفيق والدّائم، وان يظلّ يراعه سيالًا يقدّم لنا النفيس وألف مبارك نتاجكم