زياد الرحباني سمفونية كُتبت بنضبات القلب سحر صلاة. صلاته الكلمة والموسيقى، عطر موسيقاه يضاهي شذى ورود الصباح. كتابته هيكل إبداع نورانيّ بخوره الألق. ألقه ثورة تجمع بين الفلسفة والرؤيا، بين الحداثة والتراث. إنه تجسيد للمبدع حين يصير الفنان مرآة وطنه لا ظله.
وفي ضوء هذا الواقع الأليم، واقع رحيله المفجع، لا يمكن الحديث عن زياد الرحباني بوصفه ملحّناً أو كاتباً أو ناقداً ساخراً فقط. زياد كان فعل مقاومة بحد ذاته. كان يسكن تفاصيل الإنسان اللبناني، من ألمه اليومي حتى نكاته العابرة، فحوّل ذلك كله إلى تأليف موسيقيّ نقديّ مركّب، هجائيّ في مظهره، عاطفيّ في جوهره.
لقد أنشأ زياد، بمعزل عن الموروث الرحباني، صوتًا موازياً يُعريه، يعيد تقديمه على ضوء الأسئلة الجديدة التي لم يكن ممكناً طرحها في زمن الخرافة الوطنية. أدخَل على صوت فيروز سؤال الوجع لا الجمال فقط، فأعاد ترتيب علاقتنا معها. صارت بعده شهادة على ليل الوطن، على برد القلوب، على هشاشة اليقين.
من حيث المضمون، زياد الرحباني صاغ نوعًا نادرًا من التأليف، قوامه الائتلاف. مزج الجاز بالتراث، السياسة بالحب، المسرح بالحياة اليومية، حتى بدا وكأننا أمام تركيبة ثقافية غير قابلة للتكرار. كان التأليف عنده تفكيكًا اجتماعيًا، نقدًا جماعيًا، محاكمةً ناعمة لكل شيء مستتبّ ومزيّف.
أما في المجال النقدي، فقد كان زياد نموذجًا لفكر يشتبك مع واقعه من دون أن يتورط في خطاب سلطوي. سلاحه الوحيد كان السخرية، لكنها سخرية مُثقّفة، تُقارب الفلسفة حين تهزأ، وتقترب من الشعر حين تعاتب. نقده كان نكتة فيها أكثر من رسالة. رسالته أن يفضح اللعبة كلّها، لعبة الحياة والسياسة والجنون .
وإذا أردنا أن نقرأ زياد أكاديميًا، فهو نموذج فريد في نظرية “الالتزام” التي تحدّث عنها سارتر، لكن بصيغة شرقية، محلية، تُترجم الالتزام بصوت فيروز حين تقول: “كيفك إنت؟”، وكأنها تقول: “كيفك يا وطن؟”.
نفسه الشاعري كان ضرورة. كان شاعريًا في زمن القسوة، حنونًا في زمن الشظايا، وعميقًا في زمن السطحية. كان الفنان الذي يعزف وجع الناس بصيغة يمكن الرقص عليها، وهذا أقسى ما في الأمر.
ختامًا، إن رحيل زياد الرحباني لا يعني غيابه، هو باقٍ فينا كنموذج نادر لوجدان ناقد، وعقلٍ ساخر، وقلبٍ لم يخن. كان يخاف علينا أكثر مما نخاف، وكان يضحك علينا ليوقظنا، لا ليهزأ. تركنا بلا وصايا، لكنه أوصانا بكل أغنية، وبكل مسرحية، وبكل نكتة كانت تُقال على الخشبة وهي تبكي أكثر مما تضحك.
رحم الله زياد الرحباني، صانع المرآة، وشهيد الكلمة حين تُقاوم بالصوت لا بالرصاص.

د. جوزاف ياغي الجميل